صفحة جزء
[ ص: 15 ] فأما جنايات العمد وجراحه فإن مالكا لا يرى فيها جملة ، إلا القود أو العفو فقط ، ولا يرى فيها دية ، فات القود أو لم يفت ، إلا في قليل منها فيرى فيها الدية لامتناع القود ويرى في سائر جراحات الخطأ الدية إلا قليلا منها فإنه لا يرى فيها دية لكن حكومة - وهذا قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، إلا في فروع اختلفوا فيها نبينها - إن شاء الله تعالى .

وهو أيضا قول أصحابنا ، وبه نأخذ ، إلا أننا لا نرى في شيء من ذلك دية ، ولا حكومة - أمكن القود ، أو لم يمكن - إلا أن يأتي به نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يثبت به إجماع متيقن ، وحتى لو غاب عنا في شيء من ذلك إجماع لم نعلمه ، لكنا بلا شك عند الله أعذر وأسلم وأخلص ، إذ لم نقتحم ما لم ندر ولم نقف ما ليس لنا به علم مما لو علمناه لقلنا به .

قال علي : ونحن ذاكرون الآن - إن شاء الله تعالى - ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ثم ما جاء عن الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - في ذلك ، ثم ما جاء عن التابعين رحمهم الله - في ذلك ، ثم ما تيسر من أقوال الفقهاء بعدهم ، إذ العمدة في الدين بعد القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - واختلافهم ، وليس كذلك من بعدهم ; وقد روينا من طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا عفان - هو ابن مسلم - نا حماد بن سلمة نا ثابت البناني عن أنس { أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم القصاص القصاص . فقالت أم الربيع : يا رسول الله أيقتص من فلانة ؟ والله لا يقتص منها ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبحان الله يا أم الربيع ، القصاص كتاب الله ، قالت : لا ، والله لا يقتص منها أبدا ، قال : فما زالت حتى قبلوا الدية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره } .

حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق بن السليم نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا مسدد نا المعتمر - هو ابن سليمان - عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : { كسرت الربيع أخت أنس بن النضر ثنية امرأة ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقضى بكتاب الله [ ص: 16 ] تعالى القصاص ، فقال أنس بن النضر : والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها اليوم ؟ فقال : يا أنس كتاب الله القصاص ، فرضوا بأرش أخذوه ، فعجب النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره } .

قال أبو داود : سألت أحمد بن حنبل : كيف يقتص من السن ؟ قال : يبرد .

وروينا من طريق البخاري نا محمد الفزاري - هو أبو إسحاق - عن حميد الطويل عن أنس قال : { كسرت الربيع - وهي عمة أنس بن مالك - ثنية جارية من الأنصار ، فطلب القوم القصاص . فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص ، فقال أنس بن النضر - عم أنس بن مالك - : والله لا تكسر ثنيتها يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أنس كتاب الله القصاص ، فرضي القوم وقبلوا الأرش ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره } .

قال أبو محمد : فهما حديثان متغايران ، وحكمان اثنان ، في قضيتين مختلفتين لجارية واحدة : [ ص: 17 ] أحد الحكمين - في جراحة جرحتها أم الربيع إنسانا ، فقضى عليه الصلاة والسلام بالقصاص من تلك الجراحة ، فحلفت أمها أنها لا يقتص منها ، فرضوا بالدية ، فأبر الله تعالى قسمها

والحكم الثاني - في ثنية امرأة كسرتها الربيع فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص في ذلك ، فحلف أنس بن النضر أخوها أن لا يقتص منها ، فرضوا بأرش أخذوه ، وأبر الله تعالى قسمه

فلاح - كما ترى - أنهما حديثان : جراحة ، وثنية - ودية ، وأرش ، وحلفت أمها في الواحدة ، وحلف أخوها في الثانية ، وكان هذا قبل أحد ، لأن أنس بن النضر رضي الله عنه - قتل يوم أحد بلا خلاف .

وهذا الحديث بين واضح أن كل ما أخذه من له القصاص من جرح ، أو نفس ، [ ص: 18 ] فهو دية ، سواء كان ذلك شيئا مؤقتا محدودا ، وكان قد تراضوا به في ترك القصاص الواجب .

برهان ذلك : قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي قد ذكرناه في " باب دية المكاتب " فأغنى عن إعادته بمقدار ما أدى دية حر ، وبمقدار ما لم يؤد دية عبد ، فسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعطى من قتل عبد دية - وهو مختلف المقدار غير مؤقت .

فإن ذلك كذلك ، فنحن على يقين من أن الذي جرحته الربيع قد أخذ مالا بدل اقتصاصه من الجرح ، ولم يأت قط : أن الذي أخذ كان عددا مؤقتا محدودا في ذلك الجرح ، فإذ لم يأت ذلك فنحن على يقين وثلج من الله تعالى أنه لو كان في تلك الجراحة دية مؤقتة ، لا تزيد ولا تنقص ، وكان ذلك الحكم في جراحة ما دون جراحة أخرى ، لما طمس الله تعالى عنا ذلك ولا عفى أثره حتى لا ينقله أحد ، حاش لله من هذا ، وقد تكفل بأنه حافظ للذكر الذي أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام وهو الوحي الذي لا ينطق صلى الله عليه وسلم في الشريعة إلا منه

فصح أن تلك الدية التي أخذ الذي جرحت الربيع كان فداء عن القصاص فقط ، وبهذا نقول - فوضح أنه ليس في هذين الخبرين إلا أن القود جائز في كل جراحة ، وفي كسر السن ، وأن المفاداة في كل ذلك جائزة بما تراضيا به عليه - المجني عليه أو وليه والجاني - لأن القول في الدية المذكورة هو ما ذكرنا - وأما حديث حميد في كسر السن فإنما فيه : أنهم رضوا بأرش أخذوه فقط - وبالله تعالى التوفيق - .

نا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك نا محمد بن بكر نا سليمان بن الأشعث نا محمد بن داود بن سفيان نا عبد الرزاق نا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا فلاجه رجل في صدقته فضربه أبو جهم فشجه فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : القود يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكم كذا وكذا ، فلم يرضوا ، فقالوا : القود يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكم كذا وكذا ؟ فلم يرضوا ، فقال : لكم كذا وكذا ، فرضوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني خاطب العشية على الناس فمخبرهم برضاكم ، قالوا : نعم ، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن هؤلاء [ ص: 19 ] الليثيين أتوني يريدون القود ، ففرضت عليهم كذا ، وكذا فرضوا ، أرضيتم ؟ قالوا : لا ، فهم المهاجرون بهم ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم ، فكفوا عنهم ، فدعاهم فزادهم ، فقال : أرضيتم ؟ قالوا : نعم ، قال : إني خاطب على المنبر فمخبرهم برضاكم ، قالوا : نعم ، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أرضيتم ؟ فقالوا : نعم }

قال أبو محمد : فليس في هذا الحديث إلا ما جاء في حديث أنس الذي رواه ثابت وهو المفاداة في الشجة التي وجب فيها القود ولا مزيد .

وفي هذا الخبر عذر الجاهل ، وأنه لا يخرج من الإسلام بما لو فعله العالم الذي قامت عليه الحجة ، لكان كافرا ، لأن هؤلاء الليثين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه كفر مجرد بلا خلاف ، لكنهم بجهلهم وأعرابيتهم عذروا بالجهالة ، فلم يكفروا

ثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن سليمان المنقري نا سليمان بن داود نا يزيد بن زريع نا سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { في الأصابع عشر عشر } قال أبو محمد : هذا حديث صحيح لا داخلة فيه ، المنقري ثقة ، وسليمان بن داود هو الهاشمي أحد الأئمة من نظراء أحمد بن حنبل ، ويزيد بن زريع لا يسأل عنه ، وسماعه من سعيد صحيح ، لأنه سمع من أيوب .

وقد روينا من طريق ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع عن شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هذه وهذه سواء } وجمع بين إبهامه وخنصره .

ومن طريق أبي داود نا عباس بن عبد العظيم العنبري نا عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري نا شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { الأصابع سواء والأسنان سواء ، الثنية والضرس سواء ، وهذه وهذه سواء } قال أبو محمد : ما نعلم في الديات في الأعضاء أثرا يصح في توقيتها وبيانها إلا [ ص: 20 ] هذا ، وسائر ذلك إنما يرجع فيه إلى الإجماع والاستدلال منه ، ومن النص على ما نبين إن شاء الله تعالى .

نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا محمد بن أحمد بن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا هشيم نا ابن أبي ليلى - هو محمد بن عبد الرحمن - عن عكرمة بن خالد المخزومي قال { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنف إذا استؤصل بالدية ، وفي اللسان الدية ، وفي الذكر الدية ، وفي العين خمسين ، وفي الرجل خمسين ، وفي الموضحة بخمس من الإبل وفي المنقلة بخمس عشرة ، وفي الجائفة ثلث دية النفس ، وفي المأمومة ثلث دية النفس ، وفي الأسنان خمسا خمسا ، وفيما هنالك من الأصابع عشرا عشرا } .

نا أحمد بن قاسم نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير ، ومحمد بن سليمان المنقري قالا جميعا : نا الحكم بن موسى نا يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود الجزري عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت باليمن وهذه نسختها ، وكان في كتابه : من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة ، فإنه قود ، إلا أن يرضى أولياء المقتول وفي النفس الدية مائة من الإبل ، وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية ، وفي اللسان الدية ، وفي الشفتين الدية ، وفي البيضتين الدية ، وفي الذكر الدية ، وفي الصلب الدية ، وفي العينين الدية ، وفي الرجل الواحدة نصف الدية ، وفي المأمومة ثلث الدية وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل ، وفي الجائفة ثلث الدية ، وفي كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشرة من الإبل ، وفي السن خمس من الإبل - وإن الرجل يقتل بالمرأة - وعلى أهل الذهب ألف دينار الدية }

وفي حديث أحمد بن شعيب نا عمرو بن منصور نا الحكم بن موسى - هو ابن صالح - ثقة نا يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود حدثني الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن [ ص: 21 ] بكتاب فيه الفرائض ، والسنن ، والديات ، وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن ، وهذه نسختها } من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال ، والحارث بن عبد كلال ، ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ، ومعافر ، وهمدان ، أما بعد " ثم ذكر نص الحديث حرفا حرفا ، لا زيادة فيه ولا نقص ، ولا تقديم ولا تأخير ، إلا أنه قال في الرجل الواحد ، وقال : قتلا عن بينة - وفي هذه الأحاديث زيادة في الرواية وطول

قال أبو محمد : فيجمع هذا كله كتاب ابن حزم ، ومرسل عكرمة ، وحديث عمرو بن شعيب ، وحديث زيد بن ثابت ، وحديث رجل من آل عمر ، وحديث ابن طاوس عن أبيه ; فأما حديث مسروق بن أوس عن أبي موسى ، وحديث أبي تميلة عن يسار المعلم عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس ، فلا حاجة بنا إليهما لأنه ليس فيهما إلا ما في حديث يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس - والمعتمد عليه رواية شعبة ، وسعيد ، لصحتهما فقط - وبالله تعالى التوفيق .

أما حديث شعبة نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا شعبة عن غالب التمار عن مسروق بن أوس بن مسروق عن أبي موسى قال : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الأصابع سواء }

قال أبو محمد : لم يسمعه غالب من مسروق .

نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا عمرو بن علي نا محمد بن جعفر غندر نا سعيد بن أبي عروبة عن غالب التمار عن حميد بن هلال عن مسروق عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الأصابع سواء عشر } وأما حديث ابن حزم ، وزيد بن ثابت ، ورجل من آل عمر ، وابن طاوس عن أبيه ، وخبر مكحول ، ومرسل عكرمة ، فإنه لا يصح منها شيء .

أما حديث ابن حزم فإنه صحيفة - ولا خير في إسناده - لأنه لم يسنده إلا [ ص: 22 ] سليمان بن داود الجزري ، وسليمان بن قرم - وهما لا شيء - وقد سئل يحيى بن معين عن سليمان الجزري الذي يحدث عن الزهري وروى عنه يحيى بن حمزة ؟ فقال : ليس بشيء .

وأما سليمان بن قرم فساقط بالجملة .

وكذلك من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر ولا حجة في مرسل فسقط ذلك الكتاب جملة .

قال أبو محمد : فظهر وهي هذه الأخبار كلها - وأما ما جاء في ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم - : روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قضى فيما أقبل من الأسنان بخمسة أبعرة ، وفي الأضراس بعيرا بعيرا ، فلما كان معاوية وقعت أضراسه فقال : أنا أعلم بالأضراس من عمر ؟ فجعلهن سواء .

نا يوسف بن عبد الله النمري نا أحمد بن محمد بن الجسور نا قاسم بن أصبغ نا مطرف بن قيس نا يحيى بن بكير نا مالك عن زيد بن أسلم عن مسلم بن جندب عن أسلم مولى لعمر بن الخطاب عن عمر أنه قضى في الضرس بجمل

وبه إلى مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : قضى عمر بن الخطاب في الأضراس ببعير بعير . وقضى معاوية بن أبي سفيان في الأضراس بخمسة أبعرة خمسة أبعرة ; قال سعيد : فالدية تنقص في قضاء عمر وتزيد في قضاء معاوية ، فلو كنت أنا لجعلت في الأضراس بعيرين بعيرين ، فتلك الدية سواء .

وقد جاء عن عمر غير هذا - كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن جابر عن الشعبي عن شريح أن عمر كتب إليه أن الأسنان سواء .

ومن طريق عبد الرزاق أيضا عن معمر عن ابن شبرمة أن عمر بن الخطاب جعل في كل ضرس خمسا من الإبل [ ص: 23 ] ومن طريق وكيع نا سفيان عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب قال في السنن : خمس من الإبل .

وعن وكيع نا مالك بن أنس عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الأسنان سواء اعتبروها بالأصابع عقلها سواء .

ومن طريق عبد الرزاق عن مالك عن داود بن الحصين عن أبي غطفان : أن مروان أرسله إلى ابن عباس يسأله ماذا جعل في الضرس ؟ قال : فيه خمس من الإبل ، قال : فردني إلى ابن عباس قال : أتجعل مقدم الفم كالأضراس قال : لو لم نعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء .

قال أبو محمد : ادعى قوم أن معنى قول ابن عباس اعتبروها بالأصابع إنما هو قيسوها بالأصابع ، وهذا باطل ، لأننا قد ذكرنا قبل هذا بنحو ورقتين في الآثار الرواية الثابتة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن الأصابع سواء ، وأن الأضراس سواء ، وأن الثنايا سواء } .

وقد ذكرنا آنفا اختلاف الصحابة في التفضيل بين الأسنان وسنذكر في باب الأصابع اختلافهم في الأصابع ، فمن الباطل البحت : أن يأمر ابن عباس بقياس الأضراس على الأصابع ، والنص قد جاء فيهما معا مجيئا واحدا ، والخلاف فيهما معا موجود ، وإنما معنى قول ابن عباس " اعتبروها بالأصابع " إنما هو أنه كانوا يخالفونه ، فيرون المفاضلة بين الأسنان والأضراس ، لتفاضل منافعهما ، ولا يرون ذلك في الأصابع - وإن كانت مختلفة المنافع - فكان يبكتهم ابن عباس بذلك ، ويريهم تناقضهم في تعليلهم ويبطل تعليلهم بذلك ، ويأمرهم بأن يتفكروا فيها بقولهم في الأصابع ، لأن العبرة في كلام العرب إنما هو التفكر ، والتعجب والتدبر فقط .

وأما التابعون - فحدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا هشام بن عروة عن أبيه : أنه كان يسوي بين الأسنان في الدية ، ويقول : إن كان للثنية جمال فإن للضرس منفعة .

وبه إلى وكيع نا شعبة عن سلمة بن كهيل عن شريح قال : الأسنان سواء [ ص: 24 ] ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، وقتادة ، قالا جميعا : في كل سن خمس من الإبل - الأضراس والأسنان سواء .

وبه إلى عبد الرزاق [ عن محمد بن راشد ] قال سمعت مكحولا يقول : الأصابع سواء والأسنان سواء .

وبه إلى عبد الرزاق عن ابن جريج عن سليمان بن موسى قال في كتاب لعمر بن عبد العزيز : في الأسنان خمس خمس من الإبل ؟ قال أبو محمد : وبهذا يقول أبو حنيفة - ومالك ، والشافعي ، وأحمد وأبو سليمان ، وأصحابهم ، وسفيان الثوري ، وإسحاق بن راهويه .

وهنا قول آخر - كما روينا - من طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن عبد الله بن طاوس عن أبيه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في السن بخمس من الإبل } .

قال طاوس : وتفضل كل سن على التي تليها بما يرى أهل الرأي والمشورة .

وبه إلى عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاوس قال : قلت لأبي : من أين يبدأ ؟ قال : الثنيتان خير من الأسنان .

قال ابن جريج : وأخبرني عمرو بن مسلم أنه سمع طاوسا يقول : يفضل الناب في أعلى الفم وأسفله على الأضراس ، قال : وفي الأضراس صغار الإبل .

قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء بن أبي رباح : الأسنان ؟ قال عطاء : في الثنيتين والرباعيتي ن والنابين خمس خمس ، وفيما بقي بعيران بعيران - أعلى الفم وأسفله سواء - كل ذلك سواء ، والأضراس سواء ، قال ابن جريج : قلت لعطاء : أسنان المرأة تصاب جميعا ؟ قال : خمسون .

قال علي : فهذه الأقوال كما أوردنا قول عن عمر ، وعلي ، ومعاوية ، وابن عباس رضي الله عنهم : أن دية السن والضرس سواء خمس خمس . [ ص: 25 ] وهو قول عروة بن الزبير ، وشريح ، والزهري ، وقتادة ، ومكحول ، وعمر بن عبد العزيز .

وقول آخر - أن الثنايا والرباعيات والأنياب خمس خمس ، وفي سائر الأضراس - وهي الطواحين - بعير بعير - وهو الثابت عن عمر بن الخطاب .

وقول آخر - إن الطواحين مفضلة على الثنايا والرباعيات . وهو قول صح عن معاوية ، كما أوردنا .

وقول رابع - وهو قول سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعطاء : إن في الأسنان خمسا خمسا ، وفي الأضراس بعيران بعيران .

وقول آخر - وهو أن في الثنية خمسا من الإبل ، ثم تفضل على التي تليها وتفضل التي تليها على التي تليها ، وهكذا إلى آخر الفم وهو قول طاوس .

قال علي : فلم يحصل من هذه المسألة إلا على أخبار مرسلة لا تصح ، ولو صحت لكان الحاضرون من خصومنا مخالفين لها كما ذكرنا - ومن الباطل احتجاج المرء بخبر لا يراه على نفسه حجة ، وهو عنده حجة ، لا حجة على من لا يراه حجة في شيء أصلا .

قال أبو محمد : لكنا نقول - قول من يدري ويوقن أن قوله وكتابه معروضان عليه [ في ] يوم القيامة ، وهو مسئول عنهما - : إن الخطأ في السكوت بالجهل أسلم من الخطأ في الحكم في الدين بالجهل ، بل السكوت لمن لم يعلم فرض عليه واجب ، والقول بما لا يعلم حرام على الناس .

فنقول - وبالله تعالى التوفيق : وإنه إن لم يصح في إيجاب الدية في الخطأ في السن إجماع متيقن ، فلا يجب في ذلك شيء أصلا ، لما قد ذكرناه من قول الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } .

ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } [ ص: 26 ] فلا يحل لأحد إيجاب غرامة على أحد إلا أن يوجبها نص صحيح ، أو إجماع متيقن - فأما النص الصحيح فقد أمنا وجوده بيقين هاهنا ، فكل ما روي في ذلك منذ أربعمائة عام ونيف وأربعين عاما من شرق الأرض إلى غربها قد جمعناه في الكتاب الكبير المعروف ب " كتاب الإيصال " ولله الحمد - وهو الذي أوردنا منه ما شاء الله تعالى ، فإن وجد شيء غير ذلك فما لا خير فيه أصلا ، لكن مما لعله موضوع محدث .

وأما الإجماع - فلسنا نعرفه ، وقد قالت الملائكة { لا علم لنا إلا ما علمتنا } ولو صح عندنا في ذلك إجماع لبادرنا إلى الطاعة له ، وما ترددنا في ذلك طرفة عين ، فمن صح عنده في ذلك إجماع فليتق الله ولا يخالفه ، ومن لم يصح عنده إجماع ولا نص ، ففرضه التوقف ، ولا يحل له أن يكذب فيدعي إجماعا .

قال أبو محمد : ثم نقول - وبالله تعالى التوفيق : إنه لو صح في ذلك إجماع بأن فيها خمسا ، فوجه العمل في ذلك أنه لو صح الإجماع المتيقن على أن في الثنية خمسا من الإبل ، فواجب كان أن يكون في كل سن ، وكل ضرس خمس خمس ، لأنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { الأسنان سواء ، الثنية والضرس سواء } .

وهذا العموم لا يحل لأحد خلافه ، ولا تخصيصه ، فواجب حمله على ظاهره ، وأنه في القصاص الذي أمر الله تعالى به في القرآن ، وأمر هو به عليه الصلاة والسلام بلا شك .

وأما في العمد فجائز تراضي الكاسر والمكسور سنه ، والقالع والمقلوع سنه على الفداء في ذلك ، على ما صح وثبت في حديث الربيع .

وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية