صفحة جزء
2094 - مسألة : وإذا اقتتل اثنان ، فقتل أحدهما الآخر ؟ فقد قال قوم : على الحي نصف الدية ، لأنه مات المقتول من فعله وفعل غيره [ ص: 156 ] وهذا ليس بشيء ، لأن المقتول - وإن كان عاصيا لله تعالى ، وفي النار ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار } فإنه ليس كل عاص يحل دمه ولا يغرم دية ، لكن القاتل الحي هو قاتل الآخر بلا شك ، فإذ هو قاتله بيقين عليه ما على القاتل : لما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : سئل ابن شهاب عن أول من جعل على المصطدمين نصف عقله ؟ فقال ابن شهاب : نرى أن العقل تاما على الباقي منهما ، وتلك السنة فيما أدركنا .

قال أبو محمد : فإن جنى المقتول على قاتله جناية مات منها بعد موت المقتول ؟ فالقود واجب تعجيله على الحي ، إذ كانا ظالمين معا ، أو كان الحي منهما ظالما والمقتول مظلوما ؟ فيستقاد من الحي في نفسه ، وفي الجراح التي جرح المقتول بها - أو تؤخذ الدية منه ، أو من ماله - مات أو عاش - ولا شيء في مال المقتول - لا دية ولا غيرها - إلا إن كان قطع له أصبعا ، أو أصابع ، أو يدا ، أو رجلا ، فالدية في ذلك في مال الميت .

برهان ذلك : أن ما وجب في حياة الجاني من دية فهي واجبة بعد ، فلا يسقطها موته ، إذ ما صح بيقين فلا يسقط بالدعوى - وأما ما لم يجب في حياته بعد ، فبيقين ندري أن ماله قد صار بموته لورثته ، أو للغرماء بلا شك .

فإذ صار لهم ، فهو مال من مالهم ، والدية لا تجب إلا بموت المقتول ، فإذا وجبت بموته - ولا مال للجاني - فمن الباطل البحت المقطوع به : أن تؤخذ دية من مال من لم يقتله ، ولا جنى عليه - وكذلك دية القاتل الذي قد مات قبل وجوب الدية عليه ، والأحكام لا تلحق الموتى ، وإنما تلحق الأحياء - وبالله تعالى التوفيق - فهذا حكم الظالمين .

وأما إن كان القاتل الحي مظلوما والمقتول ظالما ، فقد مضى إلى لعنة الله تعالى ولا شيء على القاتل الجارح - لا قود ، ولا دية - لما سنذكره في " كتاب أهل البغي " . [ ص: 157 ]

قال أبو محمد : وأما المصطدمان : راجلين ، أو على دابتين ، أو السفينتين يصطدمان ، فروي عن الشعبي : في السفينتين يصطدمان لا ضمان في شيء من ذلك .

وقال الشافعي : لا يجوز فيه إلا أحد قولين : إما أنه يضمن مدبر السفينة نصف ما أصابت سفينته لغيره ، أو أنه لا يضمن ألبتة ، إلا أن يكون قادرا على صرفها بنفسه ، أو بمن يطيعه فلا يفعل فيضمن ، والقول قوله مع يمينه : أنه ما قدر على صرفها ، وضمان الأموال إذا ضمن في ذمته ، وضمان النفوس على عاقلته .

قال أبو محمد : وقال بعض أصحابنا : إذا اصطدمت السفينتان بغير قصد من ركابهما ، لكن بغلبة ، أو غفلة فلا ضمان في ذلك أصلا .

فإن حملا سفينتهما على التصادم فهلكتا : ضمن كل واحد نصف قيمة السفينة الأخرى ، لأنها هلكت من فعلها ، ومن فعل ركابها .

وأما الفارسان يصطدمان - فإن أبا حنيفة ، ومالكا ، والأوزاعي ، والحسن بن حي ، قالوا : إن ماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر كاملة .

وقال عثمان البتي وزفر ، والشافعي : على كل واحد منهما نصف دية صاحبه .

وقال بعض أصحابنا - بمثل قول الشافعي في ذلك - وكذلك أوجبوا إن هلكت الديتان - أو إحداهما - فنصف قيمتها أيضا .

كذلك - لو رموا بالمنجنيق فعاد الحجر على أحدهم فمات ، فإن الدية على عواقلهم ، وتسقط منها حصة المقتول ، لأنه مات من فعله وفعل غيره .

قالوا : فلو صدم أحدهما الآخر فقط ، فمات المصدوم فديته على عاقلة الصادم إن كان خطأ ، وفي مال القاتل إن قتلت في العمد .

قال أبو محمد : والقول في ذلك - وبالله تعالى التوفيق - أن السفينتين إذا اصطدمتا بغلبة ريح أو غفلة ، فلا شيء في ذلك ، لأنه لم يكن من الركبان في ذلك [ ص: 158 ] عمل أصلا ولم يكسبوا على أنفسهم شيئا ، وأموالهم وأموال عواقلهم محرمة ، إلا بنص أو إجماع .

فإن كانوا تصادموا وحملوا - وكل أهل سفينة غير عارفة بمكان الأخرى لكن في ظلمة لم يروا شيئا - فهذه جناية ، والأموال مضمونة ، لأنهم تولوا إفسادها ، وقال تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ، وأما الأنفس - فعلى عواقلهم كلهم ، لأنه قتل خطأ ، وإن كانوا تعمدوا فالأموال مضمونة - كما ذكرنا - وعلى من سلم منهم القود أو الدية كاملة ، والقول في الفارسين ، أو الرجلين يصطدمان كذلك ، وكذلك - أيضا - الرماة بالمنجنيق تقسم الدية عليه وعليهم ، وتؤدي عاقلته وعاقلتهم ديته سواء .

برهان ذلك : أنه في الخطأ قاتل نفسه مع من قتلها وقد ذكرنا قبل : أن في قاتل نفسه الدية بنص قول الله تعالى في قاتل الخطأ ، فعم تعالى كل مقتول ، ولم يخص خطأ { وما كان ربك نسيا } .

قال أبو محمد : ثم نرجع إلى مسألتنا فنقول : أما قولهم في المصطدمين إن الميت مات منهما من فعل نفسه ، ومن فعل غيره - فهو خطأ ، والفعل إنما هو مباشرة الفاعل وما يفعله فيه - وهو لم يباشره بصدمة غيره في نفسه شيئا .

ولا يختلفون فيمن دفع ظالما إلى ظالم آخر ليقاتله فقتل أحدهما الآخر : أن على القاتل منهما القود ، أو الدية كلها - إن فات القود ببعض العوارض - وهو قد تسبب في موت نفسه بابتداء القتال ، كما تسبب في موت نفسه في الصدم ، ولا فرق - وهذا تناقض منهم .

قال أبو محمد : وكذلك القول في المتصارعين ، والمتلاعبين ، ولا فرق وما أباح الله تعالى في اللعب شيئا حظره في الجد .

وأما من سقط من علو على إنسان فماتا جميعا ، أو مات الواقع ، أو الموقوع عليه ، فإن الواقع هو المباشر لإتلاف الموقوع عليه بلا شك ، وبالمشاهدة ، لأن الوقعة [ ص: 159 ] قتلت الموقوع عليه ، ولم يعمل الموقوع عليه شيئا : فدية الموقوع عليه - إن هلك - على عاقلة الواقع - إن لم يتعمد الوقوع عليه - لأنه قاتل خطأ ، فإن تعمد ، فالقود واقع عليه إن سلم ، أو الدية - وكذلك الدية في ماله إن مات الموقوع عليه قبله .

فإن ماتا معا ، أو مات الواقع قبل ، فلا شيء في ذلك ، لما ذكرنا من أن الدية إنما تجب بموت المقتول المجني عليه لا قبل ذلك . فإذا مات في حياة قاتلة فقد وجبت الدية أو القود في مال القاتل . وإذا مات مع قاتله أو بعد قاتله ، فلم يجب له بعد شيء - لا قود ولا دية - في حياة القاتل ، فإذا مات فالقاتل غير موجود ، والمال قد صار للورثة ، وهذا لا حق له عندهم - وليس هكذا قتل الخطأ ، لأن الدية لا تجب في مال الجاني ، وإنما تجب على عاقلته ، فسواء مات القاتل قبل المقتول ، أو معه ، أو بعده : لا يسقط بذلك وجوب الدية - إما على العاقلة إن علمت ، وإما في كل مال المسلمين ، كما جاء في سهم الغارمين - وبالله تعالى التوفيق .

ولا شيء لوارث الواقع إن مات في جميع هذه الوجوه - لا دية ولا غيرها - لأنه لم يجن أحد عليه شيئا ، وسواء وقع على سكين بيد المدفوع عليه ، أو على رمح ، أو غير ذلك ، لا شيء في ذلك أصلا ، لأنه إن عمد فهو قاتل نفسه عمدا ، ولا شيء في ذلك بلا خلاف - وإن كان لم يعمد فلم يباشر في نفسه جناية ، وإنما هو قتيل حجر أو حديدة أو نحو ذلك ، وما كان هكذا فلا شيء في ذلك كله - وبالله تعالى التوفيق .

قال أبو محمد : وأما المتماقلون في الماء فإن عرف أيهم غطسه في الماء حتى مات ، فإن كان عمدا فالقود ، وإن كان غير قاصد لكن غطس أحدهم ، فلما جاء ليخرج لقي ساقي آخر فمنعتاه الخروج غير قاصد لذلك : فالدية على عاقلته وعليه الكفارة ، لأنه باشر ذلك فيه غير قاصد فهو قتل خطأ ، فإن كان غطسه تغطيسة - لا يمات ألبتة من مثلها - فوافق منيته ، فهذا لا شيء فيه ، لأنه لم يقتله - لا عمدا ولا خطأ - بل مات بأجله حتف أنفه .

فإن جهل من عمل ذلك به ، فمن ادعى عليه أحلف وبرئ ، وإن لم تقم عليه بينة - ولا قسامة هاهنا ، لأنه ليس مما حكم فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقسامة . [ ص: 160 ]

قال أبو محمد : والذي نقول به إن حكم القسامة واجب هاهنا ، لأنه هو الذي حكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة ، لأن كلتا الحالتين قتيل وجد ، ولم يقل عليه الصلاة والسلام إني حكمت بالقسامة من أجل الدار ، ولا من غير أجل الدار ، فلا يجوز أن يقول عليه الصلاة والسلام ما لم يقل ، لكن نحكم في نوع تلك الحال مثل حكمه فيها وبالله تعالى التوفيق . وكذلك من قتل في اختلاط قتال ، أو ليلا ، أو أين قتل . وبالله تعالى التوفيق .

ولو أن قوما حفروا في حائط - بحق أو بباطل - أو في معدن ، أو بئر فتردى عليهم الحائط ، أو الجرف فماتوا ، أو مات بعضهم ؟ فإن كانوا عامدين قاصدين إلى هدمه على أنفسهم : فهو قتل عمد ، والقود على من عاش ، أو دية كاملة ، لجميع من مات لكل واحد منهم دية ، لأن كل واحد منهم قاتل نفس ، وهذا حكم قاتل النفس عمدا .

وإن كانوا لم يقصدوا إلا العمل لا هدمه على أنفسهم ، فهم قتلة خطأ على عواقلهم كلهم دية دية لكل من مات فقط - فإن لم يكن لهم عواقل فمن سهم الغارمين ، أو من كل مال لجميع المسلمين .

ولو أن قوما وقفوا على جرف فانهار بأحدهم فتعلق بمن يقربه ، وتعلق ذلك بآخر فسقطوا فماتوا ، فالمتعلق بصاحبه قاتل خطأ ، فالدية على عاقلة المتعلق - فكأن زيدا تعلق بخالد ، وتعلق خالد بمحمد ، فعلى عاقلة زيد دية خالد ، وعلى عاقلة خالد دية محمد فقط ، وكذلك أبدا ، لأن المتعلق بإنسان إلى مهلكة قاتل خطأ ، إلا أن يتعمد بلا شبهة فهو قاتل عمد ، ليس فيه إلا - لو خلص المتردي - القود ، أو الدية ، أو المفاداة .

فلو تعلقوا هكذا فوقعوا على أسد ، أو ثعبان فقتلهم ؟ فإن كان خطأ فلا شيء في ذلك ، لأنه ليس قاتل خطأ ، وإنما قتلت البهيمة - وإن كان عمدا فعليه القود - إن خلص - ويرمى إلى مثل البهيمة حتى تقتله ، كما فعل هو بأخيه لقول الله تعالى [ ص: 161 ] { والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }

قال أبو محمد : روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا علي بن مسهر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس قال : استأجر رجل أربعة رجال ليحفروا له بئرا فحفروها فانخسفت بهم البئر فمات أحدهم ؟ فرفع ذلك إلى علي بن أبي طالب فضمن الثلاثة ثلاثة أرباع الدية وطرح عنه ربع الدية .

قال علي : أما الأثر في وضع علي الدية في قصة الحفارين فهي ثابتة عنه ، وهي موافقة لقول الشافعي ، وأصحابنا - وهم يشنعون على من خالف الصاحب إذا وافق آراءهم ؟ وهم قد خالفوا هاهنا الرواية الثابتة عن علي ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم - وهذا يوضح عظيم تناقضهم . وبالله تعالى التوفيق .

وأما نحن فلا حجة عندنا في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والحفارون كلهم باشر هدم ما انهار على الذي هلك منهم ، فعلى عواقلهم كلهم عواقل الأحياء والأموات .

وكذلك لو ماتوا كلهم دية دية لكل من مات - يعني أن في كل ميت دية واحدة فقط تؤدى إلى عواقل جميعهم وعاقلة الميت في جملتهم - وبالله تعالى التوفيق .

ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري أنه سئل عن أجراء استؤجروا ليهدموا حائطا فخر عليهم فمات بعضهم : أنه يغرم بعضهم لبعض الدية على من بقي .

ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا وكيع نا موسى بن علي بن رباح عن أبيه قال : جاء أعمى ينشد الناس في زمان عمر يقول :

يا أيها الناس لقيت منكرا هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا


خرا معا كلاهما تكسرا

[ ص: 162 ] قال وكيع : كانوا يرون أن رجلا صحيحا كان يقود أعمى فوقعا في بئر فخر عليه ؟ فإما قتله ، وإما جرحه ، فضمن الأعمى .

ومن طريق ابن وهب نا الليث بن سعد أن عمر بن الخطاب قضى في رجل أعمى قاده رجل فخرا معا في بئر فمات الصحيح ولم يمت الأعمى ؟ فقضى عمر على عاقلة الأعمى بالدية ، فكان الأعمى يتمثل بأبيات شعر قالها ، وهي التي ذكرناها آنفا قبل هذا .

وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول في البصير يقود الأعمى فيقع البصير في بئر ، ويقع الأعمى على البصير ، فيموت البصير ؟ فإن دية البصير على عاقلة الأعمى .

قال أبو محمد : الرواية عن عمر لا تصح في أمر الأعمى ، لأنه عن علي بن رباح ، والليث ، وكلاهما لم يدرك عمر أصلا .

والقول في هذا عندنا أن من وقع على آخر فلا يخلو من أحد ثلاثة أوجه : إما أن يكون دفعه غيره فمات الواقع أو الموقوع عليه وإما أن يكون الموقوع عليه هو الذي جر الواقع فوقع عليه ، كبصير يقود أعمى - وهو يمسكه - فوقع البصير ، وانجبذ بجبذه الأعمى ، أو المريض فوقع عليه فمات الأسفل ، أو الأعلى - أو يكون وقع من غير فعل أحد ، لكن عمد رمي نفسه أو لم يعمد ، لكن عثر إذ خر فإن دفعه غيره ، فالدافع هو القاتل ، فإن كان عمدا فعليه القود ، أو الدية ، أو المفاداة ، في أيهما مات فإن كان خطأ فعلى عاقلته الدية وعليه الكفارة ، إذ هو القاتل خطأ - والمدفوع حينئذ والحجر سواء - فهذا وجه .

وإن كان المدفوع عليه هو جبذ الواقع فإن كان عامدا فهو قاتل عمد ، فإن مات المجبوذ فعليه القود ، أو الدية ، أو المفاداة - وإن مات هو فهو قاتل نفسه ، ولا شيء على المجبوذ ، لأنه لم يعمد ، ولا أخطأ ، فإن كان لم يعمد جبذه - ولكن استمسك به - فوقع فمات ، فعلى عاقلة الجابذ دية المجبوذ إن مات ، والكفارة ، لأنه قاتل خطأ - فإن مات هو فليس على المجبوذ شيء ، ولا على عاقلته ، لأنه ليس عامدا ولا مخطئا ، لكن على عاقلة الجابذ دية نفسه ، لأنه قاتل نفسه خطأ - فهذا وجه ثان .

وإن كان وقع من غير فعل أحد ، فإن كان عمدا فهو قاتل عمد - إن سلم فالقود ، [ ص: 163 ] أو الدية ، أو المفاداة - وإن مات فهو قاتل نفسه عمدا ، ولا شيء على الموقوع عليه ، وإن كان لم يعمد فهو قاتل خطأ إما نفسه وإما الآخر ، فالدية على عاقلته ولا بد ، وعليه إن سلم هو ومات الآخر : كفارة - وبالله تعالى التوفيق - والأعمى والبصير في ذلك سواء .

التالي السابق


الخدمات العلمية