صفحة جزء
[ ص: 180 ] مسألة :

هل للولي عفو في قتل الغيلة ، أو الحرابة ؟ قال علي : اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : لا عفو في ذلك للولي : حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب نا ابن أبي الزناد عن أبيه أنه قال في قتل الغيلة : إذا بلغ الإمام ، فليس لولي المقتول أن يعفو ، وليس للإمام أن يعفو ، وإنما هو حد من حدود الله تعالى .

قال علي : وبهذا يقول مالك ، ورأى ذلك أيضا في قاتل الحرابة حتى إنه رأى في ذلك أن يقتل المؤمن بالكافر .

وقال آخرون : بل لوليه ما لولي غيره من القتل ، أو العفو ، أو الدية .

كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سماك بن الفضل : أن عروة كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل خنق صبيا على أوضاح له حتى قتله ، فوجدوه والحبل في يده ، فاعترف بذلك ، فكتب : أن ادفعوه إلى أولياء الصبي ، فإن شاءوا قتلوه .

وبهذا يقول أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان ، وأصحابهم .

قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك ليلوح الصواب في ذلك من الخطأ ؟ فوجدنا القائلين في ذلك بأنه ليس للولي عفو في ذلك يحتجون : بما روينا من طريق مسلم نا عبد بن حميد نا عبد الرزاق نا معمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس { أن رجلا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها ، ثم ألقاها في القليب ، ورضخ رأسها بالحجارة ، فأخذ وأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر ، فأمر به أن يرجم ، فرجم حتى مات } .

ومن طريق مسلم نا هداب بن خالد نا همام نا قتادة عن أنس بن مالك { أن جارية وجدت قد رض رأسها بين حجرين فسألوها من صنع هذا بك ؟ فلان ، فلان ؟ حتى ذكروا يهوديا ، فأومأت برأسها ، فأخذ اليهودي فأقر فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرضوا رأسه بالحجارة } . [ ص: 181 ]

ومن طريق مسلم في حديث العرنيين فذكر الحديث - وفيه " فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا .

وذكروا ما حدثناه أحمد بن عمر نا الحسين بن يعقوب نا سعد بن فلحون نا يوسف بن يحيى المعافري نا عبد الملك بن حبيب عن مطرف عن ابن أبي ذئب عن مسلم بن حبيب الهذلي : أن عبد الله بن عامر كتب إلى عثمان بن عفان : أن رجلا من المسلمين عدا على دهقان فقتله على ماله ؟ فكتب إليه عثمان : أن اقتله به - فإن هذا قتل غيلة على الحرابة .

وبه - إلى عبد الملك بن حبيب عن مطرف عن خاله الحارث بن عبد الرحمن : أن رجلا مسلما في زمان أبان بن عثمان بن عفان قتل نبطيا بذي حميت على مال معه ، فرأيت أبان بن عثمان أمر بالمسلم فقتل بالنبطي ، لقتله إياه غيلة فرأيته حتى ضربت عنقه .

وعن عبد الملك بن حبيب عن مطرف عن ابن أبي الزناد عن أبيه أنه شهد أبان بن عثمان ، إذ قتل مسلما بنصراني قتله قتل غيلة .

قال علي : فقالوا : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل اليهودي ، ولم يجعل ذلك خيارا لأولياء الجارية .

وكذلك قتل العرنيين الذين قتلوا الرعاء قتل حرابة وغيلة - ولم يذكروا أنه عليه الصلاة والسلام جعل في ذلك خيارا لأولياء الرعاء .

قالوا : وهذا عثمان - رضي الله تعالى عنه - قد قتل المسلم بالكافر ، إذ قتله غيلة ، ولم يجعل في ذلك خيارا لوليه ، ولا يعرف له في ذلك مخالف ؟ قال أبو محمد : ما نعلم لهم شيئا يشغبون به إلا هذا ، وكله لا حجة لهم في شيء منه : أما حديث اليهودي الذي رضخ رأس الجارية على أوضاحها فليس فيه : أن [ ص: 182 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاور وليها ، ولا أنه شاوره ، ولا أنه قال " اختر " لولي المقتول في الغيلة ، أو الحرابة ، فإذا لم يقل ذلك - عليه الصلاة والسلام - فلا يحل لمسلم أن ينسب ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكذب عليه ، ويقول عليه ما لم يقل .

فكيف وهذا الخبر حجة عليهم فإنهم لا يختلفون في أن قاتل الغيلة ، أو الحرابة لا يجوز ألبتة أن يقتل رضخا في الرأس بالحجارة ، ولا رجما ، وهذا ما لا يقوله أحد من الناس .

فصح يقينا إذ قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم رضخا بالحجارة أنه إنما قتله قودا بالحجارة وإذ قتله قودا بها ، فحكم قتل القود أن يكون بالخيار في ذلك ، أو العفو للولي ، وإذ ذلك كذلك بلا شك ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين } إلى آخره .

فنحن على يقين من أن فرضا على كل أحد أن يضم هذا الحكم إلى هذا الخبر وليس سكوت الرواة عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وليها بمسقط ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتل من تخيير وليه ، بل بلا شك في أنه عليه الصلاة والسلام لم يخالف ما أمر به ، ولا يخلو هذا مما ذكرنا من قبول الزيادة المروية في سائر النصوص أصلا - ولو كان هذا الفعل تخصيصا أو نسخا لبينه عليه السلام ، فبطل تعلقهم - وبالله تعالى التوفيق .

وأما حديث العرنيين - فلا حجة لهم فيه أيضا ، لما ذكرنا في هذا الخبر - سواء سواء - من أنه ليس فيه أنه عليه الصلاة والسلام لم يشاور أولياء الرعاء - إن كان لهم أولياء - ولا أنه قال : لا خيار في هذا لولي المقتول ، فإذ ليس فيه شيء من هذا فلا حجة لهم ولا لنا بهذا الخبر في هذه المسألة خاصة - فوجب علينا طلب حكمها بموضع آخر .

ثم إن هذا الخبر حجة عليهم ، لما روينا من طريق مسلم نا يحيى بن يحيى التميمي نا هشيم عن عبد العزيز بن صهيب ، وحميد عن أنس : أن ناسا من عرينة قدموا - وذكر الحديث ، وفيه : { أنهم قتلوا الرعاء ، وارتدوا عن الإسلام ، وساقوا ذود [ ص: 183 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأتي بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا } .

قال أبو محمد : فهؤلاء ارتدوا عن الإسلام ، والمالكيون هم على خلاف هذا الحكم من وجوه ثلاثة :

أحدها - أنه لا يقتل المرتد عندهم ولا عندنا هذه القتلة أصلا .

والثاني - أنه لا يقتص عندهم من المرتد ، وإنما هو عندهم القتل أو الترك ، إن تاب .

والثالث - أنهم يقولون باستتابة المرتد ، وليس في هذا الحديث ذكر استتابته ألبتة ، فعاد حجة عليهم ، ومخالفا لقولهم في هذه المسألة وغيرها .

قال علي : وأما الرواية عن عثمان - فضعيفة جدا - لأنها عن عبد الملك بن حبيب وهو ساقط الرواية جدا - ثم عن مسلم بن جندب - ولم يدرك عثمان .

وأيضا - فلا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكم قصة خالفوا فيها عثمان رضي الله عنه بأصح من هذا السند ؟ كقضائه في ثلث الدية فيمن ضرب آخر حتى سلح ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم ، ومن المحال أن يكون ما لم يصح عنه حجة في إباحة الدماء ، ولا يكون ما صح عنه حجة في غير ذلك ؟ قال أبو محمد : فإذ قد بطل تعلقهم بالخبرين بما ذكرنا ، وبأنه قد يكون للأنصارية ولي صغير لا خيار له ؟ فاختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم القود - هذا لو صح أنه عليه الصلاة والسلام لم يخير الولي فكيف وهو لا يصح أبدا .

وكذلك الرعاء قد يمكن أن يكونوا غرباء لا ولي لهم فالواجب الرجوع إلى قوله تعالى ، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية ، فوجدنا الله تعالى يقول { كتب عليكم القصاص في القتلى } إلى قوله تعالى { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } [ ص: 184 ] فعم تعالى كل قتل ، كما ذكر تعالى ، وجعل العفو في ذلك للولي .

وصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : { ومن قتل له قتيل بعد مقالتي هذه فأهله بين خيرتين } فذكر الدية ، أو القود ، أو المفاداة - والدية لا تكون إلا بالعفو عن القود بلا شك ، فعم عليه الصلاة والسلام ولم يخص .

ونحن نشهد بشهادة الله تعالى : أن الله تعالى لو أراد أن يخص من ذلك قتل غيلة ، أو حرابة ، لما أغفله ولا أهمله ولبينه صلى الله عليه وآله وسلم .

ووجدنا الله تعالى قد حد الحرابة { أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } ، فلا تخلو هذه الآية من أن تكون على الترتيب ، أو التخيير ، فإن كانت على الترتيب ، فالمالكيون لا يقولون بهذا " وإن كانت على التخيير - وهو قولهم - فليس في الآية ما يدعونه من أن قاتل الحرابة ، والغيلة لا خيار فيه لولي القتيل - فخرج قولهم عن أن يكون له متعلق ، أو سبب يصح ، فبطل ما قالوه - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية