صفحة جزء
2113 - مسألة - جنايات الحيوان ، والراكب ، والسائس ، والقائد .

قال علي : قد ذكرنا الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله { العجماء جرحها جبار } . [ ص: 198 ]

روينا من طريق ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : قال رجل لشريح إن شاة هذا قطعت غزلي ؟ فقال : ليلا أو نهارا ، فإن كان نهارا فقد برئ ، وإن كان ليلا فقد ضمن ، ثم قرأ { إذ نفشت فيه غنم القوم } قال : إنما كان النفش بالليل .

قال علي : قال مالك ، والشافعي : ما أفسدت المواشي ليلا فهو مضمون على أهلها ، وما أفسدت نهارا فلا ضمان فيه .

وروي عن سفيان الثوري مثل قول أبي حنيفة .

وقال أبو حنيفة : وأبو سليمان ، وأصحابهما : لا ضمان على أرباب الماشية فيما أفسدت ليلا أو نهارا .

ولا يضمنون أكثر من قيمة الماشية - وروي عنه أنهم يضمنون ما أصابت نهارا .

وقال الليث : يضمن أهل الماشية ما أصابت ليلا ، ولا يضمنون أكثر من قيمة الماشية .

قال علي : احتج المضمنون ما جنت ليلا : بما روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا معاوية بن هشام نا سفيان عن عبد الله بن عيسى عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء بن عازب { أن ناقة لأهل البراء أفسدت شيئا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الثمار على أهلها بالنهار ، وضمن أهل الماشية ما أفسدت ماشيتهم بالليل } .

وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن { ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال بحفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل } .

ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قال ابن شهاب حدثني أبو أمامة بن سهل { أن ناقة دخلت في حائط قوم فأفسدته فذهب أصحاب الحائط إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظ أموالهم بالنهار ، وعلى أهل الماشية حفظ مواشيهم بالليل وعليهم ما أفسدته } .

وذكر بعض الناس : أن الوليد بن مسلم روى هذا الحديث عن الزهري عن حرام بن محيصة : أن البراء أخبره .

[ ص: 199 ] قال علي : هذا خبر مرسل ، أحسن طرقه : ما رواه مالك ، ومعمر عن سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب : أن ناقة للبراء .

وما رواه ابن جريج عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل : أن ناقة دخلت . فلم يسند أحد قط من هاتين الطريقتين اللتين لو أسند منهما ، أو من إحداهما لكان حجة يجب الأخذ بها ، وإنما استند من طريق حرام بن سعد بن محيصة مرة عن أبيه - ولا صحبة لأبيه - ومرة عن البراء فقط ، وحرام بن سعد بن محيصة - مجهول - لم يرو عنه أحد إلا الزهري ، وما نعلم للزهري عنه غير هذا الحديث ، ولم يوثقه الزهري - وهو قد يروي عمن لا يوثق ، كروايته عن سليمان بن قرم ، ونبهان مولى أم سلمة ، وغيرهما من المجاهيل ، والهلكى . ولا يحل أن يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين إلا بمن تعرف عدالته - فسقط التعلق بهذا الخبر ؟ قال علي : روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبد الله بن إدريس الأودي عن حصين بن عبد الرحمن بن عامر الشعبي ، قال : اختصم إلى علي بن أبي طالب في ثور نطح حمارا فقتله ، فقال علي بن أبي طالب : إن كان الثور دخل على الحمار فقتله فقد ضمن - وإن كان الحمار دخل على الثور فقتله فلا ضمان عليه .

قال علي : فهذا حكم من علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والقول عندنا في هذا كله هو ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه من أن { العجماء جرحها جبار وعملها جبار } فلا ضمان فيما أفسده الحيوان من دم أو مال لا ليلا ولا نهارا - وبالله تعالى التوفيق . فإن أتى بها وحملها على شيء ، وأطلقها فيه : ضمن حينئذ ، لأنه فعله ليلا كان أو نهارا .

وأما الحيوان الضارية فقد جاءت فيها آثار : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عبد الكريم أن عمر بن الخطاب كان يقول برد البعير ، أو البقرة ، أو الحمار ، أو الضواري ، إلى أهلهن ثلاثا إذا حظر الحائط ، ثم يعقرن .

قال ابن جريج : وأخبرني من نظر في كتاب عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى الحجاج بن ذؤيب أن يحصن الحائط حتى يكون إلى نحو البعير . قال ابن جريج : وسمعت عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر : أن عمر بن الخطاب [ ص: 200 ] كان يأمر بالحائط أن تحظر ويسد الحظر من الضاري المدل ، ثم يرد إلى أهله ثلاث مرات ، ثم يعقر .

قال ابن جريج : وقلت لعطاء : الحظر يسد ، ويحصن على الحائط ، ثم لا يمتنع من الضاري المدل ، أبلغك فيه شيء ؟ قال : لا .

قال أبو محمد : فهذا حكم عمر بن الخطاب : يرد الضاري ثلاث مرات إلى صاحبه دون تضمين ، ولم يخص ليلا ولا نهارا ثم يعقر . فخالفوا كلا الحكمين من حكم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهم يعظمون أقل من هذا إذا وافق تقليدهم .

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر ، قال : أخبرني إسماعيل بن أبي سعيد الصنعاني : أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يحدث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن أهون أهل النار عذابا رجل يطأ جمرة يغلي منها دماغه ، قال أبو بكر : وما كان ذنبه يا رسول الله ؟ قال : كانت له ماشية يعيث بها الزرع ويؤذيه ، وحرم الله الزرع وما حوله غلاة سهم ، فاحذروا أن لا يسحب الرجل ماله في الدنيا ويهلك نفسه في الآخرة ، فلا تسحبوا أموالكم في الدنيا وتهلكوا أنفسكم في الآخرة } .

قال علي : وهذا مرسل ولا حجة في مرسل ، والقول عندنا في هذا أن الحيوان - أي حيوان كان - إذا أضر في إفساد الزرع أو الثمار ، فإن صاحبه يؤدب بالسوط ويسجن ، إن أهمله ، فإن ثقفه فقد أدى ما عليه ، وإن عاد إلى إهماله بيع عليه ولا بد ، أو ذبح وبيع لحمه ، أي ذلك كان أعود عليه أنفذ عليه ذلك .

برهان ذلك : قول الله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ، ومن البر والتقوى : المنع من أذى الناس في زرعهم وثمارهم . ومن الإثم والعدوان : إهمال ذلك .

فينظر في ذلك بما فيه حماية أموال المسلمين - مما لا ضرر فيه على صاحب الحيوان بما لا يقدر على أصلح من ذلك - كما أمر الله تعالى .

وأما من زرع في الشعواء ، أو حيث المسرح ، أو غرس هنالك غرسا فإنه يكلف [ ص: 201 ] أن يحظر على زرعه وغرسه بما يدفع عن ذلك من بناء أو غيره إذ لا ضرر عليه في ذلك ، بل الحائط له ، ودفع الإضاعة عن ماله .

ولا يجوز أن يمنع الناس عن إرعاء مواشيهم هنالك ، كما لا يجوز أن يمنع هو من إحياء ما قدر على إحيائه من ذلك الموات ، وليس في طاقة أحد منع المواشي عن زرع ، أو ثمر في وسط المسرح ، فإذ ذلك ممتنع - ليس في الوسع - فقد بطل أن يكلفوا ضبطها ، أو منعها : بقول الله تعالى { لا تكلف نفس إلا وسعها } ، وهكذا القول فيما تعذر على أهل الماشية منع ماشيتهم منه في مرورها في طريقها إلى المسرح بين زرع الناس وثمارهم ، فإن أهل الزرع والثمار يكلفون هاهنا بحظير ما ولي الطريق من زروعهم وثمارهم .

وأما الثمار المتصلة من الزرع والغرس التي لا مسرح فيها فليس عليهم تكليف الحظر ، فإن أطلق مواشيه هنالك عامدا ، أو مهملا : أدب الأدب الموجع ، وبيعت عليه مواشيه إن عاد ، وضمن ما باشر إطلاقها عليه . وبالله تعالى التوفيق .

ولا يعقر الحيوان الضاري ألبتة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله ، ونهى عن إضاعة المال ، والعقر إضاعة فيما يؤكل لحمه ، وفيما لا يؤكل لحمه - وبالله التوفيق .

وأما القائد ، والراكب ، والسائق - فإن يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود قال : نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا إبراهيم الهروي نا هشيم نا أشعث عن محمد بن سيرين عن شريح : أنه كان يضمن الفارس ما أوطأت دابته بيد أو رجل ، ويبرئه من النفحة .

قال هشيم : ونا يونس ، والمغيرة ، قال يونس عن الحسن البصري ، وقال المغيرة عن إبراهيم أنهما كانا يضمنان ما أوطأت الدابة بيد أو رجل ، ولا يضمنان من النفحة .

وعن إبراهيم ، وشريح أنهما قالا : إذا نفحت الدابة برجلها فإن صاحبها لا يضمن .

[ ص: 202 ] وقال الحكم والشعبي : يضمن ولا يطل دم المسلم .

وعن محمد بن سيرين أن رجلا شرد له بعيران فأخذهما رجل فقرنهما في حبل فأخنق أحدهما فمات ؟ فقال شريح : إنما أراد الإحسان ، لا يضمن إلا قائد أو راكب .

وقال محمد بن سيرين في الدابة أفزعت فوطئت يضمن صاحبها ، وإذا نفحت برجلها من غير أن تفزع لم يضمن .

وعن الشعبي أنه سئل عن رجل أوثق على الطريق فرسا عضوضا فعقر ؟ فقال الشعبي : يضمن ، ليس له أن يربط كلبا عضوضا على طريق المسلمين .

وعن إبراهيم النخعي ، وشريح قالا جميعا : يضمن الراكب ، والسائق ، والقائد .

وعن أبي عون الثقفي أن رجلين كانا ينشران ثوبا فمر رجل فدفعه آخر فوقع على الثوب فخرقه ، فارتفعوا إلى شريح فضمن الدافع ، وأبرأ المدفوع ، بمنزلة الحجر .

وعن الشعبي قال : هما شريكان - يعني الراكب والرديف .

وعن الشعبي أيضا قال : من أوقف دابته في طريق المسلمين أو وضع شيئا فهو ضامن بجنايته .

وعن إبراهيم النخعي ، والشعبي ، قالا جميعا : من ربط دابته في طريق فهو ضامن - وعن إبراهيم في رجل استعار من رجل فرسا فركضه حتى قتله ، قال : ليس عليه ضمان ، لأن الرجل يركض فرسه .

وعن عطاء قال : يغرم القائد ، والراكب ، عن يدها ما لا يغرمان عن رجلها ، قلت : كانت الدابة عادية فضربت بيدها إنسانا وهي تقاد ؟ قال : نعم ، ويغرم القائد ، قلت : السائق يغرم عن اليد والرجل ، قال : زعموا ، فراددته ؟ قال : يقول : الطريق الطريق .

[ ص: 203 ] وعن قتادة قال : يغرم القائد ما أوطأت بيد أو رجل ، فإذا نفحت لم يغرم ، والراكب كذلك ، إلا أن تكون بالعنان فتنفح فيغرم .

وعن الشعبي قال : يضمن الرديف مع صاحبه .

وعن شريح قال : يضمن القائد ، والسائق ، والراكب ، ولا يضمن الدابة إذا عاقبت ، قلت : وما عاقبت ؟ قال : إذا ضربها رجل فأصابته . وعن مجاهد قال : ركبت جارية جارية فنخستها أخرى فوقعت فماتت ؟ فضمن علي بن أبي طالب الناخسة والمنخوسة .

وقال مالك ، والشافعي : يضمن السائق ، والقائد ، والراكب ما أصابت الدابة ، إلا أن ترمح من غير فعلهم ، فلا ضمان عليهم .

وقال مالك ، وأبو حنيفة : يضمن الرديف مع الراكب .

وقال إسحاق بن راهويه لا يضمن الرديف .

وقال أحمد : أرجو أن لا شيء عليه إذا كان أمامه من يمسك العنان .

قال أبو محمد : فالواجب علينا عند تنازعهم ما افترض الله تعالى علينا ، إذ يقول تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } ، فنظرنا في الراكب فوجدناه مصرفا لدابته حاملا لها فما أصابت مما حملها عليه ، فإن عمد فعليه القصاص في النفس فما دونها ، لأنه متعد مباشر للجناية - وإن كان مما لا يضمنه ، فإن كان ذلك - وهو لا يعلم بما بين يديه - فهو إصابة خطأ يضمن المال ، وعلى عاقلته الدية في النفس وعليه الكفارة ، لأنه قاتل خطأ ، وما أصابت برأسها ، أو بعضتها ، أو بذنبها ، أو بنفحتها بالرجل ، أو ضربت بيدها في غير المشي : فليس من فعله فلا ضمان عليه فيه ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { العجماء جرحها جبار } .

وأما القائد : فإن كان يمسك الرسن أو الخطام فهو حامل للدابة على ما مشت عليه ، فإن عمد فالقود - كما قلنا - والضمان في المال ، وإن لم يعمد فهو قاتل خطأ ، [ ص: 204 ] فالدية على العاقلة ، والكفارة عليه في ماله ، ويضمن المال ، فإن كانت الدواب مقصورة بعضها إلى بعض كذلك ، فكذلك أيضا ولا فرق . وسواء كان على الدابة المقودة راكب أو لم يكن : لا ضمان على الراكب ، إلا إن حملها أو أعان ، فهو والقائد شريكان ، وإلا فلا ، فإن كان القائد لا رسن بيده ، ولا عقال ، فلا ضمان عليه ألبتة ; لأنه لم يتول شيئا ، ولا باشر فيما أتلف من دم ، أو مال شيئا أصلا - وقد قال عليه الصلاة والسلام { والعجماء جرحها جبار } .

وأما الرديف - فإن كان يمسك العنان هو وحده ولا يمسكه المتقدم : فحابس العنان هو الضامن وحده ، وعليه في العمد القود ، وفي الخطأ الكفارة ، والدية على العاقلة ، ولا ضمان ، ولا شيء على المتقدم ، إلا أن يعين في ذلك .

وأما السائق - فإن حملها بضرب ، أو نخس ، أو زجر على شيء ما ، فإن عمد فالقود والضمان ، وإن لم يعمد فهو قاتل خطأ كما قلنا ، فإن لم يحملها على شيء فلا ضمان عليه ، لأنه لم يباشر - وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { جرح العجماء جبار } .

ومن أوثق دابته على طريق المسلمين فلا ضمان عليه ، وكذلك لو أرسلها وهو يمشي ، وليس كل مسيء ضامنا .

وقد علمنا وعلم كل مسلم : أن عامل السلاح ، وبائعها في الفتن : فمخالف ظالم ، ومسيء ، ومعين بذلك على قتل الناس ، ولا خلاف في أنه لا ضمان عليه .

فإن قيل : إن غيره هو المتولي ؟ قيل لهم : والدابة هي المتولية أيضا ، وجرحها جبار ، وكذلك من حل دابة ، أو طائرا عن رباطها : فلا ضمان عليه فيما أصابت ، لأنه لم يعمد ، ولا باشر ، ولا تولى .

وأما من ركب دابته ولها فلو يتبعها فأصاب الفلو إنسانا ، أو مالا : فهو الحامل له على ذلك ، فإن عمد فالقود ، وإن لم يعمد فهو قاتل خطأ .

برهان ذلك : أنه في إزالته أمه عند مستدع له إلى المشي وراءها ، فهو مباشر [ ص: 205 ] لاستجلابه ، فلو ترك الفلو اتباع أمه ، وأخذ يلعب ، أو خرج عن اتباعها ، فلا ضمان على راكب أمه أصلا .

وكذلك من استدعى بهيمة بشيء تأكله وهو يدري أن في طريقها متاعا تتلفه ، أو إنسانا راقدا فأتته ، فأتلفت في طريقها شيئا ، فالقود في العمد ، وهو قاتل خطأ إن لم يعمد .

وكذلك من أشلى أسدا على إنسان أو حنشا - وليس كذلك من أطلقهما دون أن يقصد بهما إنسانا .

لأنه في إطلاقهما على الإنسان مباشر لإتلافه ، قاصد لذلك - وليس في إطلاقهما جانيا على أحد شيئا أصلا .

وأما ما قاله شريح في قارن البعيرين فصحيح ولا ضمان على من فعل ما أبيح له فعله ، إلا أن يوجب ذلك نص أو إجماع .

وأما ما جاء عن علي - رضي الله عنه - في تضمين الناخسة فصحيح ، لأنها هي الملقية للأخرى في الأرض - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية