صفحة جزء
2125 - مسألة : من سم طعاما لإنسان ، ثم دعاه إلى أكله ، فأكله ، فمات ؟ قال علي : ذهب قوم إلى أن من سم طعاما وقدمه إلى إنسان وقال له : كل فأكل فمات ، فإن عليه القود - وهو قول مالك .

[ ص: 229 ] وقال آخرون : ليس عليه القود ، لكن على عاقلته الدية .

قال آخرون : لا قود فيه ولا دية ولا كفارة ، وإنما عليه ضمان الطعام الذي أفسد - إن كان لغيره - والأدب ، إلا أن يؤجره إياه : فعليه القود - وهو قول أصحابنا ولم يختلف قول الشافعي في إيجاره إياه - وهو يدري - أنه يقتل : أن فيه القود - وله في إذا لم يؤجره إياه قولان : أحدهما : كقول مالك ، والآخر : كقول أصحابنا .

قال علي : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك [ لعل ] في ذلك سنة جرت ؟ فوجدنا .

ما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا مخلد بن خالد نا عبد الرزاق نا معمر عن الزهري " عن ابن كعب بن مالك عن أبيه { أن أم مبشر قالت للنبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه : ما نتهم بك يا رسول الله ، فإني لا أتهم بابني إلا الشاة المسمومة التي أكل معك بخيبر ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم وأنا لا أتهم بنفسي إلا ذلك فهذا أوان قطع أبهري } .

قال أبو داود : وربما حدث عبد الرزاق بهذا الحديث مرسلا عن معمر عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم وربما حدث به عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب - وذكر عبد الرزاق : أن معمرا كان يحدثهم بالحديث مرة مرسلا فيكتبونه ، ويحدثهم مرة فيسنده فيكتبونه ، فلما قدم عليه ابن المبارك أسند له معمر أحاديث كان يوقفها .

وبه - إلى أبي داود نا أحمد بن حنبل أنا إبراهيم بن خالد نا رباح عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أمه أم مبشر قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر معنى حديث مخلد بن خالد ، قال ابن الأعرابي : هكذا قال عن أمه ، وإنما الصواب عن أبيه .

وبه إلى أبي داود نا سليمان بن داود المهري نا ابن وهب أخبرني يونس عن [ ص: 230 ] ابن شهاب قال : كان جابر بن عبد الله يحدث { أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة ، ثم ساق القصة بطولها - وفيها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : أسممت هذه الشاة ؟ قالت : نعم ، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها ، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة } .

وبه - إلى أبي داود نا هارون بن عبد الله نا سعيد بن سليمان نا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة { أن امرأة من اليهود أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة } .

وبه - إلى أبي داود نا يحيى بن حبيب بن عدي نا خالد بن الحارث نا شعبة نا هشام بن زيد عن أنس بن مالك { أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك ؟ فقالت : أردت لأقتلك ؟ قال : ما كان الله ليسلطك على ذلك ، أو قال علي ، فقالوا : ألا تقتلها ؟ قال : لا . قال أنس : فما زلت أعرفها في لهواة رسول الله صلى الله عليه وسلم } .

قال أبو محمد : فجاءت هذه الآثار الصحاح { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمت له اليهودية - لعنها الله - شاة وأهدتها له مريدة بذلك قتله ، فأكل منها عليه السلام وقوم من أصحابه فماتوا من ذلك ، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تقتلها ؟ قال : لا } فكانت هذه حجة قاطعة ، وأن لا قود على من سم طعاما لأحد مريدا قتله فأطعمه إياه [ فمات منه ] ولا دية عليه ، ولا على عاقلته ، ولا شيء - وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبطل دم رجل من أصحابه قد وجب فيه قود ودية فنظرنا : هل للطائفة الأخرى اعتراض أم لا ؟ فوجدنا : ما حدثنا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك نا محمد بن بكر نا أبو داود نا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة } .

قال أبو داود : ونا وهب بن بقية في موضع آخر عن خالد عن محمد بن عمرو [ ص: 231 ] عن أبي سلمة ، ولم يذكر أبا هريرة قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة } زاد { فأهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية سمتها فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ، وأكل القوم ، فقال : ارفعوا أيديكم ، فإنها أخبرتني : أنها مسمومة - فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري ، فأرسل إلى اليهودية : ما حملك على الذي صنعت ؟ قالت : إن كنت نبيا لم يضرك ، وإن كنت ملكا أرحت الناس معك ؟ فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت ، ثم قال في وجعه الذي مات منه : فما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر ، فهذا أوان قطع أبهري } .

وما حدثناه أحمد بن قاسم نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا محمد بن إبراهيم بن نعمان - لقيته بقيروان إفريقية ثنا إبراهيم بن موسى البزاز أو البزار - شك قاسم بن أصبغ - نا أبو همام نا عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها يعني : التي سمته } .

قال أبو محمد : فنظرنا في الرواية فوجدناها معلولة : أما رواية وهب بن بقية ، فإنها مرسلة ، ولم يسند منها وهب في المرة التي أسند إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، فقط .

وأما سائر الخبر ، فإنه أرسله ولا مزيد - هكذا في نص الخبر الذي أوردنا لما انتهى إلى آخر لفظه { ولا يأكل الصدقة } .

قال : وزاد فأتى بخبر الشاة مرسلا فقط ، ولا حجة في مرسل .

وأما رواية قاسم ، فإنها عن رجال مجهولين : ابن نعمان القيرواني لا نعرفه - وإبراهيم بن موسى البزاز كذلك - وأبو همام كثير لا ندري أيهم هو - وسعيد بن سليمان يروي من طريق عباد بن العوام مسندا إلى أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرض لليهودية التي سمته - وهذا القيرواني يروي من طريق عباد بن العوام أنه عليه الصلاة والسلام قتلها ، فسقطت هذه الرواية جملة ; لجهالة ناقليها .

ثم لو صحت لما كان فيها حجة ; لأنها عن أبي هريرة كما أوردنا ، وقد صح عن [ ص: 232 ] أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم لم يعرض لها ، وكانت الرواية لو صحت - وهي لا تصح - مضطربة عن أبي هريرة : مرة أنه قتلها ، ومرة أنه لم يعرض لها - فلو صحت الرواية عن أبي هريرة في أنه عليه الصلاة والسلام قتلها ، كما قد صح عن أبي هريرة : أنه عليه الصلاة والسلام لم يعرض لها ، لكان الكلام في ذلك لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها : إما أن تترك الروايتان معا لتعارضهما ; ولأن إحداهما وهم ، بلا شك ; لأنها قصة واحدة ، في امرأة واحدة ، في سبب واحد ، ويرجع إلى رواية من لم يضطرب عنه ، وهما : جابر وأنس ، اللذان اتفقا على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقتلها - فهذا وجه .

والوجه الثاني : وهو أن تصح الروايتان معا فيكون عليه الصلاة والسلام لم يقتلها إذ سمته من أجل أنها سمته ، فتصح هذه عن أبي هريرة ، وتكون موافقة لرواية جابر ، وأنس بن مالك ، ويكون عليه الصلاة والسلام قتلها لأمر آخر ، والله أعلم به .

أو يكون الحكم على وجه ثالث - وهو أصح الوجوه - وهو أن قول أبي هريرة رضي الله عنه : قتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله : لم يعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما جميعا لفظ أبي هريرة ، لا يبعد الوهم عن الصاحب .

وحديث أنس هو لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، ولا يقره ربه تعالى على الوهم ، ولا على الخطأ في الدين أصلا وهذا أن إنسانا ذكر أنه قيل له : يا رسول الله ألا تقتلها ؟ فقال : لا ، فهذا هو المغلب المحكوم به الذي لا يحل خلافه - فصح أن من أطعم آخر سما فمات منه : أنه لا قود عليه ، ولا دية عليه ، ولا على عاقلته ; لأنه لم يباشر فيه شيئا أصلا ، بل الميت هو المباشر في نفسه ، ولا فرق بين هذا وبين من غر آخر يوري له طريقا أو دعاه إلى مكان فيه أسد فقتله .

وقد صح الخبر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوجب على التي سمته وأصحابه فمات من ذلك السم بعضهم : قودا ولا دية - فبطل النظر مع هذا النص .

ووجه آخر وهو أنه لا يطلق على من سم طعاما لآخر ، فأكله ذلك المقصود [ ص: 233 ] فمات أنه قتله ، إلا مجازا لا حقيقة ، ولا يعرف في لغة العرب أنه " قاتل " وإنما يستعمل هذا العوام ، وليس الحجة إلا في اللغة ، وفي الشريعة ، وبالله تعالى التوفيق .

وأما إذا أكرهه وأوجره السم ، أو أمر من يوجره : فهو قاتل بلا شك ، ومباشر لقتله ، ويسمى " قاتلا " في اللغة ، وفي الأثر : كما نا حمام حدثنا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا بكر بن حماد نا مسدد نا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا ، ومن شرب سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها ، مخلدا فيها أبدا ، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا } .

قال علي : فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرب السم ليموت به " قاتلا لنفسه " : فوجب أن يكون عليه القود ، وظهر خطأ من أسقط هاهنا القود - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية