صفحة جزء
[ ص: 258 ] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كتاب العواقل ، والقسامة ، وقتل أهل البغي 2143 - ( مكرر ) - مسألة : العواقل ؟ قال الفقيه أبو محمد - رحمه الله : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن رافع نا عبد الرزاق نا ابن جريح أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : { كتب النبي صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله ، ثم كتب الله : أنه لا يحل أن يتوالى مولى رجل بغير إذنه } .

وبه : إلى مسلم نا قتيبة نا الليث عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه قال : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة ، ثم إن التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها ، وأن العقل على عصبتها } .

وبه : إلى مسلم نا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي نا جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن عبيد بن نضلة عن المغيرة بن شعبة [ ص: 259 ] قال { ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط - وهي حبلى - فقتلتها وإحداهما لحيانية ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة ، وغرة لما في بطنها ، فقال رجل من عصبة القاتلة : أنغرم دية من لا أكل ولا نطق ولا استهل ، فمثل ذلك يطل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسجع كسجع الأعراب ؟ قال : وجعل عليهم الدية } .

قال أبو محمد رحمه الله : فصح أن الدية في قتل الخطأ وفي الغرة الواجب في الجنين على عاقلة القاتل ، والجاني ، بحكم رسول الله ، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين من هم العاقلة الغارمة لدية الخطأ ، ولغرة الجنين ، وأنهم أولياء الجاني الذين هم عصبته ومنتهاهم البطن الذي هو منهم - على ما أوردنا آنفا - من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب على كل بطن عقوله ؟ .

قال أبو محمد رحمه الله : وجمهور الناس يقولون : تغرم العاقلة المذكورة الدية ، إلا أنه قد اختلف عن عثمان البتي في ذلك ، فروي عنه أنه قال : لا أدري ما العاقلة ؟ وروي عنه أنه قال بما قلنا - وجمهور الناس يقولون : هذه الآثار المعتمد عليها لصحتها - وقد جاءت آثار غير هذه - لا بأس بذكر بعضها - وإن كانت لا حجة فيها لكن لتعرف : نا محمد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا ابن أبي ليلى عن الشعبي قال : { جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقل قريش على قريش ، وعقل الأنصار على الأنصار } .

نا حمام نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا عبد الله بن يونس نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن الحجاج بن أرطاة عن الحكم بن مقسم عن ابن عباس ، قال : { كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار : أن يعقلوا معاقلهم ، ويفدوا عانيهم بالمعروف ، والإصلاح بين الناس } : فالأول : منقطع ، وفيه ابن أبي ليلى ، وهو سيئ الحفظ .

والثاني : فيه حجاج بن أرطاة - وهو ساقط - وفيه مقسم وهو ضعيف . [ ص: 260 ] قال أبو محمد : فإن قال قائل : كيف يجوز الحكم بأن تغرم العاقلة جريرة غيرها ؟ وقد قال الله تعالى { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } .

وقال تعالى { كل نفس بما كسبت رهينة } .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك : ما ناه عبد الله بن ربيع التميمي نا محمد بن معاوية الهاشمي نا أحمد بن شعيب أخبرني هارون بن عبد الله نا شقيق ني عبد الملك بن أبجر عن زياد بن لقيط عن أبي رمثة قال : { أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي فقال : من هذا معك ؟ فقال : ابني أشهد به ، قال : أما إنك لا تجني عليه ولا يجني عليك } .

نا عبد الله بن ربيع نا محمد نا أحمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمود بن غيلان نا بشر بن السري نا سفيان عن أشعث - هو ابن أبي الشعثاء - عن الأسود بن هلال عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي قال { كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء ناس من الأنصار فقالوا : يا رسول الله هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع قتلوا فلانا في الجاهلية ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهتف بصوته : ألا لا تجني نفس على أخرى } .

وبه : إلى محمود بن غيلان نا أبو داود الطيالسي نا شعبة عن أشعث بن أبي الشعثاء قال : سمعت الأسود بن هلال يحدث عن رجل من بني ثعلبة بن يربوع : { أن ناسا من بني ثعلبة بن يربوع أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل : يا رسول الله هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع قتلوا فلانا رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه السلام لا تجني نفس على أخرى } .

قال أبو محمد رحمه الله : فجوابنا - وبالله تعالى التوفيق : أن هذه الأحاديث - وإن كان في أسانيدها معترض - فإن معناها صحيح ، وفي الآيات التي ذكرتم كفاية ; لأنها منتظمة لمعنى هذه الأحاديث .

ثم نقول - وبالله تعالى التوفيق - : نعم إن الله تعالى حكم بأن { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } وأن { كل امرئ بما كسب رهين } ونعم ، لا يجني أحد على أحد ، ولا تجني نفس على أخرى ، [ ص: 261 ] ولكن الذي قال هذا كله ، وحكم به ، هو أيضا القائل { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } .

وهو المخبر لنا على لسان عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أنه قد عفا لنا عن الخطأ والنسيان - وهو تعالى مع ذلك الموجب في قتل الخطأ دية ، وكفارة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين لمن لم يقدر على الكفارة .

وهو الموجب على لسان رسوله عليه السلام على عصبة قاتل الخطأ وأهل بطنه الذي ينتمي إليهم دية قتل المؤمن خطأ ، والغرة الواجبة في الجنين ، وكل قول حق ، وكل حكمه واجب ، يضم بعض ذلك إلى بعض ، ويستثنى الأقل من الأكثر .

ولا يحل لأحد أخذ بعض أوامره دون بعض ، ولا ضرب أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض ، إذ كلها فرض وحق ، وليس شيء منها أولى بالطاعة له من شيء آخر ، ولم يأت نص ولا إجماع في قتل العمد ، ولا يجوز تكليف أحد غرامة عن أحد إلا أن يوجبها نص أو إجماع ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فواجب أن ننظر من العصبة ، والبطن ، والأولياء - الذين أوجب الله تعالى عليهم الدية في قتل الخطأ - والغرة في الجنين - فوجدنا الناس قد اختلفوا في ذلك : فقالت طائفة : العاقلة هم من كان معه في ديوان واحد في العطاء : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر قال : سمعت الزهري - أو بلغني عنه - أنه قال : الثلث فيما دونه ، في خاصة ماله - يعني : مال الجاني ، وما زاد على ذلك على أهل الديوان .

وبه : قال أبو حنيفة ، وأصحابه : الدية في قتل الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين من يوم يقضى بها - والعاقلة : هم أهل ديوانه ، يؤخذ ذلك من أعطياتهم ، حتى يصيب الرجل منهم من الدية أربعة دراهم أو ثلاثة ، فإن أصابه أكثر ضم إليهم أقرب القبائل إليهم في النسب من أهل الديوان .

[ ص: 262 ] وإن كان القاتل ليس من أهل الديوان ، فرضت الدية على عاقلته - الأقرب فالأقرب - في ثلاث سنين ويضم إليهم أقرب القبائل إليهم في النسب حتى يصيب الرجل من الدية ثلاثة دراهم أو أربعة .

وقال سفيان الثوري : الدية تكون عند الأعطية على الرجال .

وقال الحسن بن حي : العقل على رءوس الرجال في عطية المقاتلة .

وقال الليث بن سعد : العقل على القاتل ، وعلى القوم الذين يأخذ معهم العطاء ، ولا يكون على قومه منه شيء .

وقال مالك : الدية على القبائل على الغني قدره ، ومن دونه على قدره ، وعقل الموالي يلتزمه أهل العاقلة - شاءوا أم أبوا ، كانوا أهل ديوان ، أو منقطعين - قد تعاقل الناس زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وإنما كان الديوان في زمان عمر بن الخطاب ، فإذا انقطع الرجل من أهل البادية إلى القرى ، إلى المدينة ، وما يشبهها من أمهات القرى فسكنها وثوى بها : رأيت أن يضم عقله إلى قومه من أهل القرى ، فإن لم يكن في القرية من يحمل عقله من قومه ضم إلى أقرب الناس بقبيلته من القبائل .

وقال الشافعي ، وأبو سليمان ، وأصحابهما : العقل على ذوي الأنساب دون أهل الديوان ، والحلفاء : الأقرب فالأقرب من بني أبيه ، ثم من بني جده ، ثم من بني جد أبيه .

قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا - كما ذكرنا - وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لقولها بعد أن رجعت الأقوال في ذلك إلى ثلاثة أقوال فقط : أحدها - قول أبي حنيفة ومن معه : على أن العاقلة على أهل الديوان ، لا على عصبة الجاني .

والآخر - قول مالك ومن معه : أن العاقلة على قومه الذين معه في المدينة ونحوها ، لا على من كان منهم في البادية .

والثالث - قول الشافعي ، وأبي سليمان ، ومن معهما : أن العاقلة على الأقرب فالأقرب من عصبته ، من بني أبيه ، ثم من بني أجداده أبا فأبا [ ص: 263 ] فوجدنا من جعل العاقلة على أهل الديوان خاصة يقولون : إن الدية كانت على القبائل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلها عمر على الديوان .

قالوا : فإن بطل الديوان رجع الأمر إلى ما كان عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه لم نجد لهم شبهة غير هذه ؟ قال أبو محمد رحمه الله : وهذا الذي قالوه باطل - إن الذي ادعوه من أن عمر بن الخطاب أبطل حكم العاقلة الذي حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جرى عليه أبو بكر بعده ، وأحدث حكما آخر ، فإنه باطل لا أصل له ، وكذب مفترى .

ولعل مموها أن يموه في ذلك - : بما ناه محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع عن سفيان الثوري عمن سمع الشعبي يقول : جعل عمر الدية على العاقلة في الأعطية فهذا مما لا متعلق لهم به ; لأنه عمن لا يدرى .

وقد روينا عن يحيى بن سعيد : أنه قال فيمن لم يسمه الثوري : لو كان في شيخ الثوري خير لبرح به - ثم هو عن الشعبي - ولم يولد الشعبي إلا بعد موت عمر ؟ وقد جهدنا أن نجد هذا الذي قالوه عن عمر - رضي الله عنه - فما وجدناه ولا له أصل ألبتة - ورحم الله القائل : الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ، وأن المحفوظ عن عمر خلاف هذا .

كما نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا الربيع بن صبيح عن الحسن البصري : أن عمر بن الخطاب قال لعلي بن أبي طالب في جناية جناها عمر : عزمت عليك إلا قسمت الدية على بني أبيك فقسمها ؟ على قريش ، فهذا حكم عمر ، وعلي ، بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - من المهاجرين والأنصار ، ولا يعرف عليهما منكر منهم في قسم ما تغرمه العاقلة على القبيلة ، لا على أهل الديوان ، ولا على أهل المدينة خاصة كما قال مالك ، وهم يحتجون بأقل من هذا لو وجدوه .

وأما عمر - رضي الله عنه - فقد نزهه الله تعالى عن أن يبطل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدث حكما آخر ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فسقط هذا القول ، ولاح فساده ، وضعف أصله وفرعه .

[ ص: 264 ] ثم نظرنا في قول مالك ، فوجدناه قد احتج على من جعل الدية على أهل الديوان بما فيه الكفاية مما قد ذكرنا ، وتلك الحجة بعينها حجة عليه ، في قوله " إن من نزع من أهل البدو إلى قرية من أمهات القرى ، كالمدينة وغيرها ، فإن العاقلة عنه : أهل القرى ، وأهله بالبادية " .

وهذا ليس بشيء ; لأنه لم يأت به سنة صحيحة ، ولا سقيمة ، ولا إجماع ، ولا قول صاحب ، وما علمناه قال به أحد قبل مالك ، وليس هذا مما يؤيده نظر ، ولا قياس : فبطل ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فلم يبق - إذ بطل هذان القولان - إلا القول الثالث ، وهو قول أصحابنا ، وهو الحق ; لموافقته ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الذي هو الحجة ، فوجب علينا أن ننظر فيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ونرد إليه النوازل في ذلك ، كما أمر الله تعالى : فوجدناه صلى الله عليه وسلم قد كتب على كل بطن عقوله ، وجاء حكمه صلى الله عليه وسلم في الدية ، وفي الغرة كما قد قدمنا وجاء حكمه عليه السلام : أن العاقلة هم الأولياء وهم العصبة - فصح بهذا ما قلناه .

وأما الأثر - الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم كتب على قريش عقوله ، وعلى الأنصار عقوله فإنه مرسل كما أوردناه ولا حجة في مرسل .

فوجب أن نبدأ في العقل بالعصبة كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لا نتجاوز البطن ، كما حد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لا يلتفت إلى ديوان ، ولا إلى أهل مدينة ، إذ لم يوجب ذلك نص قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ، لكن يكلف ذلك العصبة حيث كانوا إلى البطن ، فإن جهلوا أو تعذر أمرهم لافتراق الناس في البلاد ، العصبة والبطن حينئذ من الغارمين ، وممن قد لزمتهم تلك الغرامة ، ووجبت في أموالهم ، فإذ هم من الغارمين فيؤدى حقهم في الصدقات في سهم الغارمين فيؤدى عنهم من ذلك - فهذا حكم العاقلة قد بيناه وأوضحناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية