صفحة جزء
2145 - مسألة : مقدار ما تحمله العاقلة ؟ قال أبو محمد رحمه الله : قالت طائفة : لا تحمل العاقلة من جنايات الخطأ إلا ما كان أكثر من ثلث الدية فصاعدا ، فإن كان أقل من الثلث أو كان الثلث ، فهو في مال الجاني .

وقالت طائفة : لا تحمل العاقلة إلا ما كان ثلث الدية فصاعدا ، فما كان أقل من ثلث الدية فهو في مال الجاني .

وقالت طائفة : الثلث فصاعدا على العاقلة ، وما كان أقل من الثلث فعلى قومه خاصة .

وقالت طائفة : لا تحمل العاقلة إلا ما كان نصف عشر الدية فصاعدا ، وما كان أقل فهو في مال الجاني .

وقالت طائفة : إن جنت امرأة على رجل أو امرأة ، فبلغت ثلث ديتها كان على عاقلته ، وإن بلغ أقل ففي ماله .

وقالت طائفة : المراعى في ذلك المجني عليه ، فإن كان امرأة فبلغ نصف عشر ديتها حملته عاقلة الجاني - رجلا كان أو امرأة - وإن كان المجني عليه رجلا فبلغ [ ص: 269 ] نصف عشر ديته فإنه على عاقلة الجاني - رجلا كان أو امرأة - وما كان دون ذلك ففي مال الجاني .

وقالت طائفة : تحمل العاقلة ما قل أو كثر .

وقالت طائفة : الحكم في ذلك على ما اتفقوا عليه ، فإن كان تآلفوا على الكثير فقط حملوا الكثير فقط - ولم تحد للقليل ولا للكثير حدا - .

قال أبو محمد : فالقول الأول كما روي عن الزهري ، قال : الثلث فما دونه في خاصة ماله وما زاد فهو على العاقلة .

والقول الثاني - كما روي عن ابن وهب ، قال : أخبرني ابن سمعان قال : سمعت رجالا من علمائنا يقولون : قضى عمر بن الخطاب في الدية أن لا يحمل منها شيء على العاقلة حتى تبلغ ثلث الدية فإنها على العاقلة - عقل المأمومة والجائفة - فإذا بلغت ذلك فصاعدا حملت على العاقلة .

وعن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار مثله - وعن الزهري مثله .

وقال عروة بن الزبير : ما كان من خطأ فليس على العاقلة منه شيء حتى يبلغ ثلث الدية - على ذلك أمر السنة - .

وعن الليث بن سعد أنه سمع يحيى بن سعيد يقول : إن من الأمر - القديم عندنا - أن لا يكون على العاقلة عقل حتى يبلغ الجرح ثلث الدية .

وعن ربيعة لا تحمل العاقلة ما دون الثلث إلا أن يصطلحوا على شيء .

وعن ابن جريج ، ومعمر عن عبيد الله بن عمر قال : نحن مجتمعون أو قد كدنا أن نجتمع : أن ما دون الثلث في ماله خاصة .

وعن يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز قضى في مولى جرح ، فكان دون الثلث من الدية ولم يكن له شيء أن يكون دينا يتبع به - وبهذا يقول عبد العزيز بن أبي سلمة .

والقول الثالث - قال مالك : ما بلغ ثلث الدية من الرجل من جناية الرجل جرح رجلا أو امرأة فعلى العاقلة فإن كان أقل من ذلك ففي ماله ، وما بلغ ثلث دية المرأة [ ص: 270 ] فعلى العاقلة فما كان أقل ففي ماله سواء جرحت رجلا أو امرأة .

والقول الرابع - كما روي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم قال : لا تعقل العاقلة ما دون الموضحة .

قال وكيع : وسمعت سفيان الثوري يقول : لا تعقل العاقلة موضحة المرأة إلا في قول من رآها كموضحة الرجل - وهو قول ابن شبرمة .

وأما القول الخامس - فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا به فراعوا المجني عليه ، قالوا : فإن كان المجني عليه امرأة فبلغت الجناية نصف عشر ديتها فصاعدا فهي على العاقلة ، فإن بلغت أقل فهي في مال الجاني - رجلا كان أو امرأة - فإن كان المجني عليه رجلا فبلغت الجناية نصف عشر ديته فصاعدا فهي على العاقلة ، فإن بلغت أقل ففي مال الجاني - رجلا كان أو امرأة .

والقول السادس - كما روى عبد الرزاق عن ابن جريح عن عطاء ، قال : إذا بلغ الثلث فهو على العاقلة ، وقال لي ذلك ابن أيمن ، ولا أشك أنه قال : فما لم يبلغ الثلث فعلى قوم الرجل خاصة .

والقول السابع - كما روي عن ابن وهب أخبرني يونس عن أبي الزناد قال : كل شيء من جراح أو دم كان خطأ ، فإن عقل ما ائتلفت عليه القبيلة من الخطأ على ما ائتلفوا عليه إن كانت إلفتهم على الكثير ، وليست على القليل ، فإن عقل ما ائتلفوا عليه على العاقلة وعقل ما لم يأتلفوا عليه على الجارح في ماله - وليس بشيء من ذلك - اصطلحت عليه القبيلة - بأس .

وقد كان عمر بن عبد العزيز ألف معقلة قريش ، إذ كان أميرا على المدينة : على أنهم يعقلون ثلث الدية فما فوقها ، وأن ما دون ذلك يكون على الجارح في ماله .

والقول الثامن - قاله عثمان البتي ، والشافعي : أن العاقلة تحمل ما قل أو كثر - كما ذكرنا في الباب الذي قبل هذا قول عطاء وغيره : أن العاقلة تحمل ثمن العبد - ولم يخص قليلا من كثير - وهو قول الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان ، وغيرهم .

قال أبو محمد رحمه الله : فنظرنا في قول من قال : إن الثلث فما دونه في مال [ ص: 271 ] الجاني ، وإن ما زاد على العاقلة ؟ فوجدناه لا حجة لهم نعلمها أصلا - فسقط هذا القول ، إذ كل قول لا حجة له ، فهو ساقط لا يجوز القول به .

ثم نظرنا في القول الثاني - فوجدناهم يذكرون : ما رواه يونس بن يزيد عن ربيعة أنه قال : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف بين الناس في معاقلهم فكانت بنو ساعدة فرادى على معقلة يتعاقلون ثلث الدية فصاعدا ، ويكون ما دون ذلك على من اكتسب وجنى } .

وقال ابن وهب : وحدثني عبد الجبار بن عمر عن ربيعة أنه قال : { عاقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار : فجعل العقل بينهم إلى ثلث الدية } .

وما ناه حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا الحارث بن أبي أسامة نا محمد بن عمر الواقدي نا موسى بن شيبة عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده قال : كنا في جاهليتنا وإنما نحمل من العقل ما بلغ ثلث الدية ، ونؤخذ به حالا ، فإن لم يوجد عندنا كان بمنزلة الذي يتجازى ، فلما جاء الله تعالى بالإسلام كنا فيمن سن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعاقل بين قريش والأنصار : ثلث الدية - روي عن عمر - ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم .

قال أبو محمد رحمه الله : فنظرنا في هذا الاحتجاج ، فوجدناه لا تقوم به حجة ; لأن الخبرين عن ربيعة مرسلان .

أما المسند - فهالك ألبتة ; لأنه عن الحارث بن أبي أسامة وهو منكر الحديث ، ترك بأخرة - وهو أيضا عن الواقدي ، وهو مذكور بالكذب .

ثم عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك - وهو مجهول .

ورب مرسل أصح من هذا قد تركوه ، كالمرسل في : أن في العين العوراء : ثلث ديتها وغير ذلك - فسقط هذا القول .

وأما كونه عن عمر - رضي الله عنه - فهو مرسل عن ابن سمعان وابن سمعان مذكور بالكذب - ثم لو صح لما كان في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة .

وقد جاء عن عمر بما هو أصح من حكمه : في عين الدابة ربع ثمنها ، وكتابه [ ص: 272 ] بذلك إلى القضاة في البلاد ، ومن خطبته على الصحابة - رضي الله عنهم - أن في الضلع جملا ، وفي الترقوة جملا .

ومن الباطل أن يكون قول عمر قد صح عنه ليس حجة ، ويكون قول مكذوب لم يصح عنه حجة - فسقط كل ما احتجوا به .

ثم نظرنا في قول من قال : لا تحمل العاقلة ما دون نصف العشر من الدية فلم نجد لهم حجة إلا أن قالوا : إن الأموال لا تحملها العاقلة ; لأنه ليس فيها أرش مؤقت لا يتعدى - ووجدنا ثلث الدية تحملها العاقلة ; لأن فيها أرشا معلوما لا يتعدى ، فوجب أن يكون كذلك كل ما له أرش محدود فتحمله العاقلة ، وما لا أرش له محدودا فلا تحمله العاقلة ؟ .

قال أبو محمد رحمه الله : وهذا ليس بشيء ، وقول كاذب ، وباطل موضوع ، ولا ندري أين وجدوا هذا إلا بظنون ؟ قال الله تعالى { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } .

ثم نظرنا في تقسيم أبي حنيفة ، ومالك ، ومراعاة مالك ثلث دية المرأة إذا كانت هي الجانية ، أو ثلث دية الرجل إذا كان هو الجاني ، ومراعاة أبي حنيفة نصف عشر الدية في المجني عليه خاصة - رجلا كان أو امرأة - فوجدناهما تقسيمين لم يسبق أبا حنيفة إلى تقسيمه في ذلك أحد نعلمه ، ولا سبق مالكا في تقسيمه هذا أحد نعلمه ، ولئن جاز لأبي حنيفة ، ومالك أن يقولا قولا برأيهما لا يعرف له قائل قبلهما ، فما حظر الله تعالى قط ذلك على غيرهما ، ولا أباح لهما من ذلك ما لم يبحه لكل مسلم دونهما ، لا سيما من قال بما أوجبه القرآن ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن من صوب لمالك ، ولأبي حنيفة قولا بالرأي لم يعرف أن أحدا قال به قبلهما ثم أنكر على من قال متبعا لكلام الله تعالى ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم قولا لم يأت عن أحد قبله أنه قال به ، ولا صح إجماع بخلافه - فما ترك للباطل شغبا ؟ ثم نظرنا في قول من قال : ما كان ثلث الدية فصاعدا فعلى العاقلة ، وما كان أقل من ثلث الدية فعلى قوم الجاني خاصة - فوجدناه لا حجة له فيه - فسقط .

[ ص: 273 ] ثم نظرنا فيما حكاه أبو الزناد من أن الحكم في ذلك إنما هو على ما ائتلفت عليه القبائل وتراضت به فقط ، فوجدناه مخبرا عن حقيقة الحكم في هذه المسألة .

وصح بإخبار أبي الزناد أن هذا أمر لا سنة فيه ، وإنما هو تراض فقط فهذا لا يجوز الحكم به قطعا في دين الله تعالى .

ثم نظرنا في قول من قال : إن العاقلة تحمل القليل والكثير فوجدنا حجتهم أن قالوا : لما حملت الدية بالنص والإجماع كان حملها لبعض الدية وللقليل أولى ، إذ من حمل الكثير وجب أن يحمل القليل - وهذا قياس ، والقياس كله باطل .

قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا وصح أنها آراء مجردة لا سنة في شيء من ذلك ولا إجماع وجب الرجوع إلى ما افترض الله تعالى عند التنازع فوجدنا الله تعالى يقول { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } الآية .

وقال تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

فوجب أن لا تلزم العاقلة غرامة أصلا إلا حيث أوجبها النص والإجماع وقد صح النص بإيجاب دية النفس في الخطأ عليها وصح النص بإيجاب الغرة الواجبة في الجنين على العاقلة أيضا ، لم يأت نص ولا إجماع بأن تلزم غرامة في غير ما ذكرنا فوجب أن لا يجب عليها غرامة لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله عليه السلام - ولا يصح فيها كلمة عن صاحب أصلا ، وإنما فيها آثار عن اثني عشر من التابعين مختلفين غير متفقين - فصح أنها أقوال عذر قائلها بالاجتهاد وقصد الخير - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية