صفحة جزء
2147 - مسألة : كم يغرم كل رجل من العاقلة ؟ قال أبو محمد رحمه الله : قد قلنا : من العاقلة .

ثم وجب النظر : أيدخل فيها : الصبيان ، والمجانين ، والنساء ، والفقراء أم لا ؟ فنظرنا في ذلك بعون الله تعالى فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم إنما قضى بالدية على العصبة ، وليس النساء عصبة أصلا ، ولا يقع عليهن هذا الاسم ، والأموال محرمة إلا بنص ، أو [ ص: 276 ] إجماع ، ولا نص ولا إجماع في إيجاب الغرم على نساء القوم في الدية التي تغرمها العاقلة .

ثم نظرنا في الفقراء ، فوجدنا الله تعالى يقول { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } .

و { لينفق ذو سعة من سعته } إلى قوله : { إلا ما آتاها } .

فهذا عموم في كل نفقة في بر ، يكلفها المرء ، لا يجوز أن يخص بهذا الحكم نفقة - دون نفقة - لأنها قضية قائمة بنفسها ، فلا يحل القطع لأحد : بأن الله تعالى إنما أراد بذلك ما قبلها خاصة فصح يقينا أن الفقراء خارجون مما تكلفه العاقلة .

ثم نظرنا في الصبيان والمجانين ، فوجدنا اسم " عصبة " يقع عليهم ، ولم نجد نصا ولا إجماعا على إخراجهم عن هذه الكلفة ، بل قد وجدنا أحكام غرامات الأموال تلزمهم ، كالزكاة التي قد صح النص بإيجابها عليهم ، وأجمع الحاضرون من المخالفين معنا على أن زكاة ما أخرجت الأرض ، والثمار عليهم ، وأن زكاة الفطر عليهم ، وأن النفقات على الأولياء والأمهات عليهم .

ولم نحتج بهذا لأنفسنا ، لكن على المخالفين لنا ، لأنهم يزعمون أنهم أصحاب قياس ، وقد أجمعوا على وجوب كل ما ذكرناه في أموال الصبيان ، والمجانين ، فما الفرق بين لزوم النفقات والزكوات لهم ، وبين لزوم الدية مع سائر العصبة لهم ؟ لا سيما وهم يرون الدية في مال الصبي والمجنون ، إذا قتل ، ويرون أروش الجراحات عليهم أيضا - وهذا تناقض لا خفاء به ؟ فإن قالوا : فأنتم لا ترون الدية عليهم ولا عنهم فيما جنوه ، ثم ترونها عليهم فيما جناه غيرهم ؟ قلنا نعم ; لأننا لا نقول بالمقاييس في الدين ، ولا أن الشريعة موضوعة على ما توجبه الآراء ، بل نكفر بهذا القول ، ونبرأ إلى الله تعالى منه .

وقد وجدنا القاتل يقتل عددا من المسلمين ظلما فيعفو عنه أولياؤهم ، فيحرم [ ص: 277 ] دمه ، ويمضي سالما لا شيء عليه ، ثم يسرق دينارا ، أو يزني بأمة سوداء فيعفو عنه رب الدينار ، وسيد السوداء ، فلا يسقط عنه القطع ، ولا القتل بالحجارة - إن كان محصنا - وأين هذا والدينار من قتل النفس المحرمة ؟ ووجدناكم تقولون : إن زكاة الفطر على المرأة ، ولا تؤديها عن نفسها ، بل يؤديها عنها غيرها - وهو زوجها .

ويقول الحنفيون : الأضحية فرض على المرأة فلا تؤديها هي ، لكن يؤديها عنها زوجها ، فإذا قلتم هذا حيث لم يوجبه الله سبحانه وتعالى ولا رسوله عليه السلام ، وأنتم أهل آراء وقياس في الدين ؟ فنحن أولى بأن نقول ما أوجبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين .

فإن قيل : فإن احتجاجكم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { رفع القلم عن ثلاثة - فذكر - الصبي حتى يبلغ ، والمجنون حتى يفيق } .

قلنا : نحن - ولله الحمد - قائلون به ، ومسقطون عن الصبي والمجنون كل حكم ورد بخطاب أهل ذلك الحكم ; لأنهما غير مخاطبين بيقين لا شك فيه ، فهما خارجان عمن خوطب بذلك الحكم ، ونحن نلزمهما كل غرامة في مال جاء الحكم في ذلك المال بغير خطاب لأهله ، والحكم هاهنا جاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأن الدية والغرة على عصبة القاتلة ولم يخاطب العصبة ، ولا التفت عليه السلام إلى اعتراض من اعترض منهم ، بل أنفذ الحكم عليهم ، فنحن ننفذ الحكم بإيجاب الدية في مال العصبة ولا نبالي صبيانا كانوا أو مجانين أو غيبا أو حاضرين ، ولم نوجب ذلك فيما جناه صبي أو مجنون ; لأن الدية إنما وجبت بنص القرآن فيما قتله مخاطب الكفارة ، وليس هذا من صفات الصبيان والمجانين - والحمد لله رب العالمين .

قال أبو محمد رحمه الله : ثم نظرنا في مقدار ما يؤخذ من كل إنسان من العصبة ؟ فوجدنا قوما قالوا : لا يؤخذ من كل واحد إلا أربعة دراهم أو ثلاثة .

وقوما قالوا : يؤخذ من الغني نصف دينار ، ومن المقل ربع دينار - فكانت هذه حدودا لم يأت بها حكم من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم فوجب أن لا يلتفت إليها [ ص: 278 ] ووجب أن ننظر ما الواجب في ذلك ؟ فوجدنا الله تعالى يقول { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } .

وقال تعالى { ما جعل عليكم في الدين من حرج } .

وقال تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } .

وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية ، وبالغرة على العاقلة ، فوجب أن يحملوا من ذلك ما يطيقون ، وما لا حرج عليهم فيه ، وما لا يبقون بعده في عسر ، فإن الله تعالى لم يرد ذلك - أعني العسر بنا - قط ، فيؤخذ من مال المرء ما لا يبقى بعده معسرا ، أو يعدل بينهم في ذلك ، فمن احتمل ماله أبعرة كثيرة ، ولم يجحف ذلك به كلف ذلك - ومن لم يحتمل إلا جزءا من بعير كذلك : أشرك بين الجماعة منهم في البعير ، هكذا حتى تتم الدية - وهكذا في حكم الغرة ، وبالله تعالى التوفيق .

إنما ينظر إلى مال المرء منهم وعياله ، فتفرض الدية ، والغرة على الفضلات من أموالهم - التي يبقون بعدها - لو ذهبت - أغنياء - فيعدل بينهم في ذلك ، كما قال تعالى { اعدلوا هو أقرب للتقوى } .

والعدل : هو الأخذ بالسنة ، لا بأن يساوى بين ذي الفضلة القليلة ، والفضلة الكثيرة - فيؤخذ منهم سواء - لكن يؤخذ من الكثير كثير ، ومن القليل قليل - وهذا قول أصحابنا وهو الحق - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية