صفحة جزء
2153 - مسألة : هل يجب الحكم بالقسامة أم لا ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فذكرنا قول ابن عباس ، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، فنظرنا فيما يمكن أن يحتج به ؟ [ ص: 305 ] فوجدنا من طريق مسلم نا أبو الطاهر نا ابن وهب عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه } . وقوله صلى الله عليه وسلم { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . وقوله عليه السلام للمدعي { بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك } .

قالوا : فقد سوى الله تعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام بين تحريم الدماء والأموال ، وبين الدعوى في الدماء والأموال ، وأبطل كل ذلك ، ولم يجعله إلا بالبينة أو اليمين على المدعى عليه ، فوجب أن يكون الحكم في كل ذلك سواء لا يفترق في شيء أصلا : لا في من يحلف ، ولا في عدد يمين ، ولا في إسقاط الغرامة ، إلا بالبينة ولا مزيد .

وهذا كله حق ، إلا أنهم تركوا ما لا يجوز تركه مما فرض الله تعالى على الناس إضافته إلى ما ذكروا ، وهو أن الذي حكم بما ذكروا ، وهو المرسل إلينا من الله تعالى هو الذي حكم بالقسامة ، وفرق بين حكمها وبين سائر الدماء والأموال المدعاة ، ولا يحل أخذ شيء من أحكامه وترك سائرها ، إذ كلها من عند الله تعالى ، وكلها حق ، وفرض الوقوف عنده ، والعمل به وليس بعض أحكامه عليه السلام أولى بالطاعة من بعض ، ومن خالف هذا فقد دخل تحت المعصية ، وتحت قوله تعالى { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } .

ولا فرق بين من ترك حديث { بينتك أو يمينه } لحديث القسامة ، وبين من ترك حديث القسامة لتلك الأحاديث . فإن قالوا : الدماء حدود ، ولا يمين في الحدود ؟ قيل لهم : ما هي من الحدود ; لأن الحدود ليست موكولة إلى اختيار أحد - إن [ ص: 306 ] شاء أقامها ، وإن شاء عطلها - بل هي واجبة لله تعالى وحده ، لا خيار فيها لأحد ، ولا حكم .

وأما الدماء فهي موكولة إلى اختيار الولي - إن شاء استقاد ، وإن شاء عفا - فبطل أن تكون من الحدود ، وصح أنها من حقوق الناس - وفسد قول من فرق بينها وبين حقوق الناس من الأموال وغيرها ، لا حيث فرق الله تعالى ورسوله عليه السلام بين الدماء والحقوق وغيرها ، وليس ذلك إلا حيث القسامة فقط .

وأما من جعل اليمين في دعوى الدم خمسين يمينا ولا بد - ولا أقل - فلا حجة لهم ، إلا أنهم قاسوا كل دعوى في الدم على القسامة - والقياس كله باطل ; لأنهم لم يحكموا للدعوى المجردة في الدم بحكم القسامة في غير هذا الموضع ; لأن المالكيين ، والشافعيين يرون في القسامة تبرئة المدعين ، ولا يرون تبرئتهم في دعوى الدم المجردة ، والحنفيون يرون إيجاب الغرامة مع الأيمان في القسامة ، ولا يرون ذلك في دعوى الدم المجردة - فصح أنهم قد تركوا قياس دعوى الدم المجردة على القسامة في شيء من أحكامها ، إلا في عدد الأيمان فقط - فظهر بذلك باطل قولهم .

والقول عندنا هو ما قلناه من أن البينة في الدعاوى كلها دماء كانت أو غيرها سواء سواء ، واليمين في كل ذلك سواء - يمين واحدة فقط - على من ادعي عليه إلا في الزنى ، والقسامة ، ففي الزنى أربعة من الشهود فصاعدا ، لا أقل ; للنص الوارد في ذلك خاصة ، وفي القسامة خمسون يمينا لا أقل للنص الوارد في ذلك .

وبقي كل ما عدا ذلك على عموم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك } . وعلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم { لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على من ادعي عليه } فلا يخرج من هذا إلا ما أخرجه النص .

ثم نظرنا في قول من قال : إن القسامة تكون بدعوى المريض أن فلانا قتله ، فلم نجد لهم شبهة أصلا ، إلا ما ناه أحمد بن عمر نا عبد الله بن الحسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا إسماعيل بن إسحاق نا ابن أبي أويس نا أخي عن سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان أخبرني ابن شهاب أن [ ص: 307 ] عمر بن عبد العزيز دعاه فقال له : ما عندك في هذه القسامة ؟ فقلت له : كانت من أمر الجاهلية فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما للدماء ، وجعلها سترة لدمائهم ، ولكن من سنتها وما بلغنا فيها : أن القتيل إذا تكلم برئ أهله ، وإن لم يتكلم حلف المدعى عليهم - وذلك فعل عمر بن الخطاب ، وأن ذلك الذي أدركنا الناس عليه .

قال أبو محمد : إن أهل هذه المقالة أكثروا وأتوا بما ينسي آخره أوله ، حتى يغتر الجاهل فيظن أنهم أتوا بشيء ، وهم لم يأتوا بشيء أصلا ، وهذا سند فاسد ; لأنه مرسل .

وفي إسناده أبو بكر بن أبي أويس وقد خرج عنه البخاري ، إلا أن الموصلي الحافظ الأسدي ذكر : أن يوسف بن محمد أخبره أن ابن أبي أويس كان يضع الحديث ، وهذه عظيمة ، إلا أن الإرسال يكفي في هذا الخبر .

ولو صح مسندا لم يكن لهم فيه متعلق ; لأنه ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالقسامة فيما يدعيه المقتول ، وإنما فيه : أنها كانت من أمر الجاهلية فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما للدماء - ونحن لا ننكر هذا ، فإذا لم يكن عن النبي عليه السلام فلا حجة فيه - وأن المالكيين مخالفون لهذا الحكم ، ولا يرون فيه قسامة أصلا إذا لم يتكلم .

وذكروا - ما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن يحيى بن عبد الله نا أبو معمر البصري نا عبد الوارث نا فطر أبو الهيثم نا أبو يزيد المدني عن عكرمة عن ابن عباس قال : أول القسامة كانت في الجاهلية ، كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى فانطلق معه في إبله ، فمر رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه ؟ فقال : أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل ، فأعطاه عقالا يشد به جوالقه ، فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا ، فقال الذي استأجره : ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل ؟ قال : ليس له عقال ، قال فأين عقاله ؟ قال : مر بي رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه فاستغاثني ؟ فقال : أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل ، فأعطيته عقاله ، فحذفه بعصا كان فيه أجله ، فمر به رجل من أهل اليمن فقال : أتشهد الموسم ؟ قال : ما أشهد وربما أشهد . قال : هل أنت عني مبلغ رسالة من الدهر ؟ قال : نعم ، قال : إذا شهدت الموسم فناد : يا آل قريش ; فإذا أجابوك [ ص: 308 ] فناد : يا آل بني هاشم ، فإذا أجابوك ، فسل عن أبي طالب فأخبره : أن فلانا قتلني في عقال ومات المستأجر . فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب ، فقال : ما فعل صاحبنا ؟ قال : مرض فأحسنت القيام عليه ، ثم مات فوليت دفنه ، فقال : أهل ذلك منك ؟ فمكث حينا - ثم إن الرجل اليماني الذي كان أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم ، قال : يا آل قريش ؟ فقالوا : هذه قريش ، قال : يا بني هاشم ، قالوا : هذه بنو هاشم ، قال : أين أبو طالب ؟ قالوا : هذا أبو طالب ، قال : أمرني فلان أن أبلغك رسالته : أن فلانا قتله في عقال ، فأتاه أبو طالب فقال : اختر منا إحدى ثلاث إن شئت أن تودي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا خطأ ، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله ، فإن أبيت قتلناك به ، فأتى قومه فذكر ذلك لهم ، فقالوا : نحلف ؟ فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له ، فقالت : يا أبا طالب أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين ، ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ؟ ففعل ، فأتاه رجل منهم فقال : يا أبا طالب أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل يصيب كل رجل بعيران ، فهذان بعيران فاقبلهما عني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان ؟ فقبلهما ، وجاء ثمانية وأربعون رجلا حلفوا - قال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية وأربعين عين تطرف ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فأضافوا إلى هذا الخبر الحديث الذي قد ذكرناه قبل هذا بأوراق في باب الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسامة ، وهو أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرها رسول الله على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر - وهذا لا حجة لهم فيه ، بل هو حجة عليهم ; لأن صفة القسامة التي حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيل - ادعوه على يهود قد ذكرناها وإنما هي في قتيل وجد ، لا في مصاب ادعى أن فلانا قتله - فهذا حجة عليهم .

وأما حديث ابن عباس هذا ، فهو كله عليهم ، لا لهم ، ولئن كان ذلك الخبر حجة ، فلقد خالفوه في ثلاثة مواضع ، وما فيه لهم حجة أصلا في شيء .

لأن قول ذلك المقتول لم يتبين بشاهدين ، وإنما أتى به رجل واحد - وهم لا يرون القسامة في مثل هذا .

[ ص: 309 ] وأن أبا طالب بدأ المدعى عليهم بالأيمان - وهم لا يقولون بهذا .

وأن أبا طالب أقر : أن ذلك القرشي قتل الهاشمي خطأ ، ثم قال له : فإن أبيت من الدية ، أو من أن يحلف خمسون من قومك قتلناك به - وهم لا يرون القود في قتل الخطأ .

فمن العجب احتجاجهم بخبر : هم أول مخالف له ، وأما نحن فلا ننكر أن تكون القسامة كانت في الجاهلية في القتيل يوجد فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ، بل هذا حق عندنا لصحة الخبر بذلك ، وبالله تعالى التوفيق .

وذكروا أيضا - وهو من غامض اختراعهم - قول الله تعالى بعد أمره بني إسرائيل بذبح البقرة { وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى } .

وذكروا - مع هذه الآية - : ما ناه أحمد بن عمر بن أنس العذري عن عبد الله بن الحسين بن عقال الزبيري نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن الجهم نا أبو بكر الوزان نا علي بن عبد الله - وهو ابن المديني - نا يحيى بن سعيد القطان نا ربيعة بن كلثوم نا أبي عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس قال : إن أهل مدينة من بني إسرائيل وجدوا شيخا قتيلا في أصل مدينتهم ، فأقبل أهل مدينة أخرى فقالوا : قتلتم صاحبنا ، وابن أخ له شاب يبكي ويقول : قتلتم عمي ؟ فأتوا موسى عليه السلام ، فأوحى الله تعالى إليه : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ؟ فذكر حديث البقرة بطوله ، قال : فأقبلوا بالبقرة حتى انتهوا بها إلى قبر الشيخ - وهو بين المدينتين ، وابن أخيه قائم عند قبره يبكي - فذبحوها ، فضرب ببضعة من لحمها القبر ؟ فقام الشيخ ينفض رأسه ويقول : قتلني ابن أخي ، طال عليه عمري ، وأراد أكل مالي ؟ ومات .

وبه - إلى ابن الجهم نا محمد بن سلمة نا يزيد بن هارون نا هشام عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال : كان في بني إسرائيل عقيم لا يولد له ، وكان له مال كثير وكان ابن أخيه وارثه فقتله ، ثم احتمله ليلا حتى أتى به حي آخرين ، فوضعه على باب رجل منهم ، ثم أصبح يدعيه عليهم ، فأتوا موسى عليه السلام ، [ ص: 310 ] فقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة - فذكر حديث البقرة - فذبحوها فضربوه ببعضها ، فقام ، فقالوا : من قتلك ؟ فقال : هذا - لابن أخيه - ثم مال ميتا ، فلم يعط ابن أخيه من ماله شيئا ، ولم يورث قاتل بعد .

وبه - إلى ابن الجهم نا الوزان نا علي بن عبد الله نا سفيان بن سوقة ، قال : سمعت عكرمة يقول : كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا ، لكل سبط باب فوجدوا قتيلا قتل على باب فجروه إلى باب آخر ، فتداعوا قتله ، وتدارى الشيطان فتحاكموا إلى موسى عليه السلام فقال { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } فذبحوها ، فضربوه بفخذها ، فقال : قتلني فلان - وكان رجلا له مال كثير - وكان ابن أخيه قتله - وفي حديث البقرة زيادة اقتصرتها .

قال أبو محمد رحمه الله : وكل ما احتجوا به من هذا فإيهام وتمويه على المغتربين : أما الآية فحق ، وليس فيها شيء مما في هذه الأخبار ألبتة ، وإنما فيها : أن الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ، مسلمة لا شية فيها غير ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك وأنهم كانوا قتلوا قتيلا فتدارءوا فيه ، فأمرهم الله تعالى أن يضربوه ببعضها ، إذ ذبحوها { كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته } .

وليس في الآية أكثر من هذا ، لا أن المقتول ادعى على أحد ، ولا أنه قتل به ، ولا أنه كانت فيه قسامة ، فكل ما أخبر الله تعالى به فهو حق ، وكل ما أقحموه بآرائهم في الآية فهو باطل - فبطل أن يكون لهم في الآية متعلق أصلا .

ثم نظرنا في الأخبار التي ذكرنا فوجدناها كلها مرسلة ، لا حجة في شيء منها ، إلا الذي صدرنا به فهو موقوف على ابن عباس ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل أن يكون لهم في شيء منها متعلق ثم لو صحت الأخبار المذكورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكانت كلها لا حجة لهم فيها لوجوه : أولها - أن ذلك حكم كان في بني إسرائيل ، ولا يلزمنا ما كان فيهم ، فقد كان [ ص: 311 ] فيهم السبت ، وتحريم الشحوم ، وغير ذلك - ولا يلزمنا إلا ما أمرنا به نبينا عليه السلام .

قال الله تعالى { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { فضلت على الأنبياء بست - فذكر فيها - : أن من كان قبله : إنما كان يبعث إلى قومه خاصة ، وبعث هو - عليه السلام - إلى الأحمر والأسود } .

فصح يقينا أن موسى عليه السلام وسائر الأنبياء قبل محمد عليه السلام لم يبعثوا إلينا ، فبيقين ندري أن شرائع من لم يبعث إلينا ليست لازمة لنا ، وإنما يلزمنا الإقرار بنبوتهم فقط .

وثانيها - أنه لا يختلف اثنان من المسلمين في أنه لا يلزمنا في شيء من دعوى الدماء ذبح بقرة - وصح بطلان احتجاجهم بتلك الأخبار ، إذ ليس فيها أن يسمع من المقتول بعد : أن تذبح بقرة ويضرب بها .

وثالثها - أن تلك الأخبار فيها معجزة نبي وإحالة الطبيعة من إحياء ميت - فهم يريدون أن نصدق حيا قد حرم الله تعالى علينا تصديقه على غير نفسه ممكنا منه الكذب من أجل أن صدق بنو إسرائيل ميتا أحياه الله تعالى بعد موته - وهذا ضد القياس بلا شك ، وضد ما في هذه الأخبار بلا شك .

والأمر بيننا وبينهم في هذه المسألة قريب ، فليرونا مقتولا رد الله تعالى روحه إليه بحضرة نبي أو بغير حضرته ويخبرنا بالشيء ونحن حينئذ نصدقه ، وأما أن نصدق حيا يدعي على غيره ، فهو أبطل الباطل بعينه ، فذكرهم لهذه الآية وهذه الأخبار : قبيح ، لو تورع عنهم لكان أسلم ، ونسأل الله تعالى العافية .

وذكروا - ما رويناه من طريق مسلم نا يحيى بن الحارثي ، ومحمد بن المثنى ، قال يحيى : نا خالد بن الحارث ، وقال ابن المثنى : نا محمد بن جعفر ثم اتفق خالد ، ومحمد : كلاهما عن شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك : { أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فقتلها بحجر فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق ، [ ص: 312 ] فقال لها : أقتلك فلان ؟ فأشارت برأسها : أن لا ، ثم قال لها الثانية ، فأشارت برأسها : أن لا ، سألها الثالثة ؟ فقالت : نعم ، وأشارت برأسها ، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين } قال أبو محمد رحمه الله : وهذا لا حجة لهم فيه ; لأن هذا خبر رويناه بالسند المذكور إلى مسلم نا عبد بن حميد نا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس : { أن رجلا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة ؟ وأخذ فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يرجم حتى يموت } وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة ، وأبان بن يزيد العطار ، كلاهما عن قتادة عن أنس .

فإن قالوا : إن شعبة زاد ذكر دعوى المقتولة في هذه القصة وزيادة العدل مقبولة ؟ قلنا : صدقتم ، وقد زاد همام بن يحيى عن قتادة عن أنس - في هذا الخبر زيادة لا يحل تركها : كما روينا من طريق مسلم نا هداب بن خالد نا همام عن قتادة عن أنس : { أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين فسألوها من صنع هذا بك ؟ فلان ، فلان ، حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها ، فأخذ اليهودي فأقر ؟ فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة } ، فصح أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهودي إلا بإقراره ، لا بدعوى المقتولة .

ووجه آخر - وهو أنه لو صح لهم ما لا يصح أبدا من أنه عليه السلام إنما قتله بدعواها لكان هذا الخبر حجة عليهم ، ولكانوا مخالفين له ; لأنه ليس فيه ذكر قسامة أصلا ، وهم لا يقتلون بدعوى المقتولة ألبتة إلا حتى يحلف اثنان فصاعدا من الأولياء خمسين يمينا ولا بد .

وأيضا - فهم لا يرون القسامة بدعوى من لم يبلغ .

والأظهر في هذا الخبر أنها كانت لم تبلغ ; لأنه ذكر جارية ذات أوضاح ، وهذه الصفة عند العرب الذين بلغتهم تكلم أنس ، إنما يوقعونها على الصبية ، لا على المرأة البالغ .

[ ص: 313 ] فبطل تعلقهم بهذا الخبر بكل وجه ، ولاح خلافهم في ذلك ، فوجب القول به ، ولا يحل لأحد العدول عنه .

واعترض المالكيون ، ومن لا يرى القسامة في هذا ، بأن قالوا : والقتيل قد يقتل ثم يحمله قاتله فيلقيه على باب إنسان أو في دار قوم ؟ فجوابنا - وبالله تعالى التوفيق - : أن هذا ممكن ، ولكن لا يعترض على حكم الله تعالى ، وحكم رسوله عليه السلام : بأنه يمكن أمر كذا ، وبيقين يدري كل مسلم أنه قد يمكن أن يكذب الشاهد ، ويكذب الحالف ، ويكذب المدعي : أن فلانا قتله - هذا أمر لا يقدر أحد على دفعه ، فينبغي على هذا القول الذي ردوا به حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفوه : أن لا يقتلوا أحدا بشهادة شاهدين ، فقد يكذبان ، وليس القود بالشاهدين إجماعا فيتعلق به ; لأن الحسن يقول : لا يقبل في القود إلا أربعة .

ثم نرجع إلى مسألتنا فنقول - وبالله تعالى التوفيق - : إنه لا يحل لمسلم - يدري أن وعد الله حق - أن يعترض على ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول : لا يجوز هذا الحكم ; لأنه قد يمكن أن يرميه قاتله على باب غيره - ونعم ، - هذا ممكن .

أترى لو أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل أهل مدينة بأسرها أو بقتل أمهاتنا وآبائنا وأنفسنا ، كما أمر موسى عليه السلام قومه بقتل أنفسهم إذ أخبر الله تعالى بذلك في قوله { فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم } أكان يكون في الإسلام نصيب لمن يعند عن ذلك ؟ إن هذا لعظيم جدا .

والعجب كله أن ذلك الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم ظاهر معلق في دم رجل من بني حارثة من الأنصار على يهود خيبر ، وبينهما من المسافة ستة وتسعون ميلا مائة ميل غير أربعة أميال تتردد في ذلك الرسل ، وتختلف الكتب ، ويقع في ذلك التوعد بالحرب .

كما صح عنه عليه السلام أنه قال { إما أن يدوا صاحبكم أو يؤذنوا بحرب } .

فهذا أمر لا يشك ذو حس سليم - من مؤمن أو كافر - في أنه لم تخف هذه القصة ، ولا هذا الحكم على أحد من المسلمين بالمدينة ، ولا عن اليهود ، ولا إسلام [ ص: 314 ] يومئذ في غير المدينة ، إلا من كان مهاجرا بالحبشة ، أو مستضعفا بمكة ; لأن ذلك كان قبل فتح خيبر .

لأن في الحديث الثابت الذي أوردناه قبل من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار : أن خيبر كانت يومئذ صلحا ولم تكن قط صلحا بعد فتحها عنوة ، بل كانوا ذمة تجري عليهم الصغار ، لا يسمون صلحا ، ولا يمكنون من أن يأذنوا بحرب .

فصح يقينا أن ذلك الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إجماع من جميع الصحابة - رضي الله عنهم - أولهم وآخرهم بيقين لا مجال للشك فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية