صفحة جزء
2156 - مسألة : كم يحلف في القسامة ؟ اختلف الناس في هذا ؟ فقالت طائفة : لا يحلف إلا خمسون ، فإن نقص من هذا العدد واحد فأكثر : بطل حكم القسامة ، وعاد الأمر إلى التداعي .

وقال آخرون : إن نقص واحد فصاعدا : رددت الأيمان عليهم حتى يبلغوا اثنين ، فإن كان الأولياء اثنين فقط بطلت القسامة في العمد - وأما في الخطأ فيحلف فيه واحد خمسين - وهو قول روي عن علماء أهل المدينة المتقدمين منهم .

وقال آخرون : يحلف خمسون ، فإن نقص من عددهم واحد فصاعدا : ردت الأيمان عليهم ، حتى يرجعوا إلى واحد ، فإن لم يكن للمقتول إلا ولي واحد : بطلت القسامة ، وعاد الحكم إلى التداعي - وهذا قول مالك .

وقال آخرون : تردد الأيمان ، وإن لم يكن إلا واحد فإنه يحلف خمسين يمينا وحده - وهو قول الشافعي .

[ ص: 325 ] وهكذا قالوا في أيمان المدعى عليهم : أنها تردد عليهم وإن لم يبق إلا واحد ويجبر الكسر عليهم - فلما اختلفوا وجب أن ننظر : فوجدنا من قال بترديد الأيمان من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز : أن في كتاب لعمر بن عبد العزيز { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الأيمان أن يحلف الأولياء ، فإن لم يكن عدد عصبته تبلغ خمسين رددت الأيمان عليهم بالغا ما بلغوا } .

ومن طريق ابن وهب أخبرني محمد بن عمرو عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب ، قال : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسين يمينا ، ثم يحق دم المقتول إذا حلف عليه ، ثم يقتل قاتله ، أو تؤخذ ديته ، ويحلف عليه أولياؤه - من كانوا قليلا أو كثيرا - فمن ترك منهم اليمين ثبتت على من بقي ممن يحلف - فإن نكلوا كلهم : حلف المدعى عليهم خمسين يمينا : ما قتلناه ، ثم بطل دمه - وإن نكلوا كلهم : عقله المدعى عليهم - ولا يطل دم مسلم إذا ادعي إلا بخمسين يمينا } .

قال أبو محمد رحمه الله : هذا لا شيء ; لأنهما مرسلان ، والمرسل لا تقوم به حجة : أما حديث عمر بن عبد العزيز ففيه : أن يحلف الأولياء ، وهذا لا يقول به الحنفيون ; فإن تعلق به المالكيون ، والشافعيون . قيل للمالكيين : هو أيضا حجة عليكم ; لأنه ليس فيه : أن لا يحلف إلا اثنان .

وأيضا - فليس هو بأولى من المرسل الذي بعده من طريق ابن وهب ، وهو مخالف لقول جميعهم ; لأن فيه : إن نكل الفريقان عقله المدعى عليهم ولا يقول به مالكي ، ولا شافعي ، وفيه القود بالقسامة - ولا يقول به حنفي ، ولا شافعي ، وفيه ترديد الأيمان جملة دون تخصيص أن يكونا اثنين كما يقول مالك .

قال أبو محمد رحمه الله : وأيضا - فإن القائلين بترديد الأيمان في القسامة قد اختلفوا في الترديد ، فروينا عن عمر : أنه ردد الأيمان عليهما الأول فالأول معناه : كأنهم كانوا أربعين فحلفوا أربعين يمينا ، فبقيت عشرة أيمان ، فحلف العشرة الذين حلفوا أولا فقط ، وروي غير ذلك وأنها تردد على الاثنين فالاثنين : كما روينا من طريق ابن وهب قال : قال ابن سمعان : سمعت من أدركت من [ ص: 326 ] علمائنا يقولون في القسامة تكون في الخطأ على الوارث ، فإن لم يكن للمقتول خطأ إلا وارث واحد حلف خمسين يمينا مرددة ثم يدفع إليه الدية : فإن كانوا ابنين أو أخوين ، ليس له وارث غيرهما فطاع أحدهما بالقسامة وأبى الآخر ، فعلى الذي طاع بالقسامة خمسة وعشرون مرددة عليه ثم يدفع إليه نصف الدية وليس للآخر شيء : فإن كان الورثة ثلاثة رهط كانت القسامة عليهم أثلاثا ، فإن لم تنفق الأيمان عليهم جعل الفضل على الاثنين فالاثنين وأن القسامة على الورثة بقدر الميراث ، وقد ذكرنا بالإسناد المتصل عن سعيد بن المسيب ، والزهري : أن ترديد الأيمان في القسامة لا يجوز ، وأنه أمر حدث لم يكن قبل ، وأن أول من ردد الأيمان معاوية في القسامة ، وقد جاء في هذا خبر مرسل لو وجدوا مثله لطاروا به .

فصح أن لا قسامة إلا بخمسين يحلفون : أن فلانا قتل صاحبنا عمدا أو خطأ كيفما علموا من ذلك ، فإن نقص منهم واحد فصاعدا بطلت القسامة وعاد الأمر إلى حكم التداعي ، ويحلفون في مجلس الحاكم وهم قعود حيث كانت وجوههم : بالله تعالى فقط ، لا يكلفون زيادة على اسم الله تعالى لقول النبي عليه السلام { من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } ولا فرق بين زيادة " الذي لا إله إلا هو " وزيادة " الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر " وكل هذا حكم لم يأت به عن الله تعالى نص ، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولا أوجبه قياس ، ولا نظر .

وكذلك لا يكلفون الوقوف عند اليمين ، ولا صرف وجوههم إلى القبلة ، ولا ينزعوا أرديتهم أو طيالستهم - وكل هذه أحكام لم يأت بها نص قرآن ، ولا سنة لا صحيحة ، ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ، ولا إجماع ، ولا قياس ، ولا نظر .

فإن قالوا : هو تهييب ليرتدع الكاذب ؟ قيل لهم : وهو تشهير وإن أردتم التهييب فأصعدوه المنار ، أو ارفعوه على المنار ، أو شدوا وسطه بحبل وجردوه في سراويل - وكل هذا لا معنى له ، ولا معنى [ ص: 327 ] لأن يحلف في الجامع إلا إن كان مجلس الحاكم فيه ، أو لم يكن فيه على المحلف كلفة حركة ; لأنه لم يأمر الله تعالى بذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة ، بل إنما جاء ذلك عن عمر بن الخطاب ، ومعاوية أن عمر جلب المدعى عليهم في القسامة من اليمن إلى مكة ومن الكوفة إلى مكة ليحلفوا فيها .

وعن معاوية ثابت : أنه حملهم من المدينة إلى مكة للتحليف في الحطيم أو بين الركن والمقام ، والمالكيون ، والحنفيون ، والشافعيون مخالفون لهما - رضي الله عنهما - في ذلك ، وهم الآن يحتجون علينا بهما في الترديد الذي قد خالفوهما أيضا فيه نفسه - وبالله تعالى التوفيق .

ونجمع هاهنا حكم القسامة - إن شاء الله تعالى - فنقول - وبالله تعالى التوفيق .

إذا وجد قتيل في دار قوم ، أو في صحراء ، أو في مسجد ، أو في سوق ، أو في داره .

أو حيث وجد ، فادعى أولياؤه على واحد ، أو على جماعة من أهل تلك الدار ، أو من غيرهم ، وأمكن أن يكون ما قالوه وادعوه حقا ، ولم يتيقن كذبهم في ذلك فإنه يحلفون خمسين بالغا ، عاقلا ، من رجل أو امرأة من عصبة المقتول ، لا نبالي ورثة أو غير ورثة بالله تعالى أن فلانا قتله ، أو أن فلانا وفلانا وفلانا اشتركوا في قتله " .

ثم لهم القود ، أو الدية ، أو المفاداة ، فإن أبوا أن يحلفوا ، وقالوا : لا ندري من قتله بعينه : حلف من أهل تلك المحلة خمسون كذلك ، أو من أهل تلك القبيلة ، يقول كل حالف منهم " بالله ما قتلت " ولا يكلف أكثر ويبرءون - فإن نكلوا أجبروا كلهم على اليمين - أحبوا أم كرهوا - حتى يحلف خمسون منهم كما قلنا .

ولا يجوز أن يكلفوا أن يقولوا " ولا علمنا قاتلا " ; لأن علم المرء بمن قتل فلانا إنما هي شهادة ، فإن أداها أدى ما عليه .

فإن قبل : قبل ، فذلك ، وإن لم يقبل فلا حرج عليه .

ولا يجوز أن يحلف أحد شهادة عنده ليؤديها بلا خلاف .

فإن نقص عصبة المقتول واحد فأكثر من خمسين ، أو وجد القتيل وفيه حياة ، أو لم يرد الخمسون أن يحلفوا ولا رضوا بأيمان المدعى عليهم ، فقد بطلت القسامة .

فأما في نقصان العدد عن خمسين ، وفي وجود القتيل حيا ، فليس في هذا إلا [ ص: 328 ] حكم الدعوى ، ويحلف المدعى عليه واحدا - كان أو أكثر - يمينا واحدة فقط ، فإن نكل ، أو نكلوا : أجبروا على الأيمان أحبوا أم كرهوا .

وهكذا إن نقص عدد أهل المحلة المدعى عليهم فلا قسامة أصلا ، وكذلك إن لم يحقق أولياء المقتول دعواهم وعصبته ، فإن الحكم في ذلك واحد ، وهو أن لا بد أن يودى المقتول - حرا كان أو عبدا - من بيت مال المسلمين ، أو من سهم الغارمين من الصدقات كما أمر الله تعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } .

وكما قال النبي عليه السلام { من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يقاد أو أن يعقل } .

وليس القتل الواقع بين الناس إلا خطأ أو عمدا فقط ، وفي كليهما الدية بحكم الله تعالى ، وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام .

وأيضا - فإن الخطأ يكون على عاقلة قاتل الخطأ من الغارمين ، وفي العمد يكون القاتل إذا قبلت منه الدية غارما من الغارمين ، فحظهم في سهم الغارمين واجب ، أو في كل مال موقوف لجميع مصالح أمور المسلمين فهذا حكم كل مقتول بلا شك ، حتى يثبت أنه قتل ، لا عمدا ولا خطأ ، لكن بفعل بهيمة ، أو من له حكم البهيمة من المجانين ، أو الصبيان ، أو أنه قتل نفسه عمدا - وبالله تعالى التوفيق .

قال أبو محمد رحمه الله : وبقي في القسامة خبر نورده - إن شاء الله تعالى - لئلا يغتر به مغتر بجهل ضعفه ، أو بظن ظان أنه أغفل ولم يذكر ، فيكون نقصا من حكم السنة في القسامة .

وهو كما ناه عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب قال : سمعت ابن سمعان يقول : أخبرني ابن شهاب عن عبد الله بن موهب عن قبيصة بن ذؤيب الكعبي أنه قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فلقوا المشركين بإضم أو قريبا منه فهزم المشركون وغشي محلم بن جثامة الليثي [ ص: 329 ] عامر بن الأضبط الأشجعي ، فلما لحقه ، قال عامر : أشهد أن لا إله إلا الله ، فلم ينته عنه لكلمته حتى قتله ، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى محلم فقال : أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ فقال : يا رسول الله إن كان قالها فإنما تعوذ بها وهو كافر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا ثقبت عن قلبه ؟ يريد بذلك - والله أعلم - إنما يعرب اللسان عن القلب - وأقبل عيينة بن بدر في قومه حمية وغضبا لقيس فقال : يا رسول الله قتل صاحبنا وهو مؤمن ، فأقدنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحلفون بالله خمسين يمينا على خمسين رجلا منكم أن كان صاحبكم قتل وهو مؤمن قد سمع إيمانه ؟ ففعلوا ، فلما حلفوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعفوا عنه واقبلوا الدية ، فقال عيينة بن حصن إنا نستحي أن تسمع العرب أنا أكلنا ثمن صاحبنا ؟ وواثبه الأقرع بن حابس التميمي في قومه غضبا وحمية لخندف فقال لعيينة بن حصن : بماذا استطلتم دم هذا الرجل ؟ فقال : أقسم منا خمسون رجلا : أن صاحبنا قتل وهو مؤمن ، فقال الأقرع : فسألكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعفوا عن قتله وتقبلوا الدية فأبيتم ؟ فأقسم : بالله لتقبلن من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعاكم إليه ، أو لآتين بمائة من بني تميم فيقسمون بالله لقد قتل صاحبكم وهو كافر ؟ فقالوا عند ذلك : على رسلك ، بل نقبل ما دعانا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله نقبل الذي دعوتنا إليه من الدية ، فدية أبيك عبد الله بن عبد المطلب ؟ فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإبل } .

قال أبو محمد رحمه الله : فهذا خبر لا ينسند ألبتة من طريق يعتد بها - وانفرد به ابن سمعان - وهو مذكور بالكذب - بذكر قسامة خمسين على أنه قتل مسلما ، وهو أيضا مرسل - ولو صح لقلنا به ، فإذ لم يصح فلا يجوز الأخذ به ، وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية