صفحة جزء
[ ص: 333 ] قتل أهل البغي 2158 - مسألة : قتل أهل البغي ؟ قال أبو محمد رحمه الله : قال الله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } الآية .

فكان قتال المسلمين فيما بينهم على وجهين : قتال البغاة ، وقتال المحاربين - فالبغاة قسمان لا ثالث لهما : إما قسم خرجوا على تأويل في الدين فأخطئوا فيه ، كالخوارج وما جرى مجراهم من سائر الأهواء المخالفة للحق .

وإما قسم أرادوا لأنفسهم دنيا فخرجوا على إمام حق ، أو على من هو في السيرة مثلهم ، فإن تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق ، أو إلى أخذ مال من لقوا ، أو سفك الدماء هملا : انتقل حكمهم إلى حكم المحاربين ، وهم ما لم يفعلوا ذلك في حكم البغاة .

فالقسم الأول من أهل البغي يبين حكمهم : ما نا هشام بن سعد الخير نا عبد الجبار بن أحمد المقرئ نا الحسن بن الحسين البجيرمي نا جعفر بن محمد الأصبهاني نا يونس بن حبيب نا أبو داود الطيالسي نا شعبة أخبرني أيوب السختياني ، وخالد الحذاء ، كلاهما قال : عن الحسن البصري أخبرتنا أمنا عن أم سلمة : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عمار تقتلك الفئة الباغية } قال أبو محمد رحمه الله : وإنما قتل عمار رضي الله عنه - أصحاب معاوية رضي الله عنه وكانوا متأولين تأويلهم فيه - وإن أخطئوا الحق - مأجورون أجرا واحدا : لقصدهم الخير .

[ ص: 334 ] ويكون من المتأولين قوم لا يعذرون ، ولا أجر لهم : كما روينا من طريق البخاري نا عمر بن حفص بن غياث نا أبي نا الأعمش نا خيثمة نا سويد بن غفلة قال قال علي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { سيخرج قوم في آخر الزمان ، أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من قول خير البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة } .

وروينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا محمد بن أبي عدي عن سليمان هو الأعمش - عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس ، سيماهم التحالق ، هم شر الخلق ، أو من شر الخلق ، تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق } وذكر الحديث .

قال أبو محمد رحمه الله : ففي هذا الحديث نص جلي بما قلنا ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هؤلاء القوم فذمهم أشد الذم ، وأنهم من شر الخلق ، وأنهم يخرجون في فرقة من الناس .

فصح أن أولئك أيضا : مفترقون ، وأن الطائفة المذمومة تقتلها أدنى الطائفتين المفترقتين إلى الحق ، فجعل عليه السلام في الافتراق تفاضلا ، وجعل إحدى الطائفتين المفترقتين لها دنو من الحق - وإن كانت الأخرى أولى به - ولم يجعل للثالثة شيئا من الدنو إلى الحق .

فصح أن التأويل يختلف ، فأي طائفة تأولت في بغيتها طمسا لشيء من السنة ، كمن قام برأي الخوارج ليخرج الأمر عن قريش ، أو ليرد الناس إلى القول بإبطال الرجم ، أو تكفير أهل الذنوب ، أو استقراض المسلمين ، أو قتل الأطفال والنساء ، وإظهار القول بإبطال القدر ، أو إبطال الرؤية ، أو إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئا إلا حتى يكون ، أو إلى البراءة عن بعض الصحابة ، أو إبطال الشفاعة ، أو إلى إبطال العمل بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الرد إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى المنع من الزكاة ، أو من أداء حق من مسلم ، أو حق لله تعالى : فهؤلاء لا يعذرون بالتأويل الفاسد ; لأنها جهالة تامة .

[ ص: 335 ] وأما من دعا إلى تأويل لا يحل به سنة ، لكن مثل تأويل معاوية في أن يقتص من قتلة عثمان قبل البيعة لعلي : فهذا يعذر ; لأنه ليس فيه إحالة شيء من الدين ، وإنما هو خطأ خاص في قصة بعينها لا تتعدى .

ومن قام لعرض دنيا فقط ، كما فعل يزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان في القيام على ابن الزبير ، وكما فعل مروان بن محمد في القيام على يزيد بن الوليد ، وكمن قام أيضا عن مروان ، فهؤلاء لا يعذرون ، لأنهم لا تأويل لهم أصلا ، وهو بغي مجرد .

وأما من دعا إلى أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، وإظهار القرآن ، والسنن ، والحكم بالعدل : فليس باغيا ، بل الباغي من خالفه - وبالله تعالى التوفيق .

وهكذا إذا أريد بظلم فمنع من نفسه - سواء أراده الإمام أو غيره - وهذا مكان اختلف الناس فيه : فقالت طائفة : إن السلطان في هذا بخلاف غيره ، ولا يحارب السلطان وإن أراد ظلما .

كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني أن رجالا سألوا ابن سيرين فقالوا : أتينا الحرورية زمان كذا وكذا ، لا يسألون عن شيء غير أنهم يقتلون من لقوا ؟ فقال ابن سيرين : ما علمت أن أحدا كان يتحرج من قتل هؤلاء تأثما ، ولا من قتل من أراد قتالك إلا السلطان ، فإن للسلطان نحوا .

وخالفهم آخرون فقالوا : السلطان وغيره سواء ، كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال { : أرسل معاوية بن أبي سفيان إلى عامل له أن يأخذ الوهط فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص فلبس سلاحه هو ومواليه وغلمته ، وقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قتل دون ماله - مظلوما - فهو شهيد . }

ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار ، قال : { إن عبد الله بن عمرو بن العاص تيسر للقتال دون الوهط ، ثم قال : مالي لا أقاتل دونه وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول من قتل دون ماله فهو شهيد } .

[ ص: 336 ] قال ابن جريج : وأخبرني سليمان الأحول أن ثابتا مولى عمر بن عبد الرحمن أخبره ، قال : لما كان بين عبد الله بن عمرو بن العاص ، وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان وتيسروا للقتال ركب خالد بن العاص - هو ابن هشام بن المغيرة المخزومي - إلى عبد الله بن عمرو فوعظه ، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص : أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال { من قتل على ماله فهو شهيد } قال أبو محمد رحمه الله : فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص بقية الصحابة وبحضرة سائرهم - رضي الله عنهم - يريد قتال عنبسة بن أبي سفيان عامل أخيه معاوية أمير المؤمنين إذ أمره بقبض " الوهط " ورأى عبد الله بن عمرو أن أخذه منه غير واجب ، وما كان معاوية - رحمه الله - ليأخذ ظلما صراحا ، لكن أراد ذلك بوجه تأوله بلا شك ، ورأى عبد الله بن عمرو أن ذلك ليس بحق ، ولبس السلاح للقتال ، ولا مخالف له في ذلك من الصحابة - رضي الله عنهم وهكذا جاء عن أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهم : أن الخارجة على الإمام إذا خرجت سئلوا عن خروجهم ؟ فإن ذكروا مظلمة ظلموها أنصفوا ، وإلا دعوا إلى الفيئة ، فإن فاءوا فلا شيء عليهم ، وإن أبوا قوتلوا ، ولا نرى هذا إلا قول مالك أيضا .

فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن نرد ما اختلفوا فيه إلى ما افترض الله تعالى علينا الرد إليه ، إذ يقول تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } .

ففعلنا : فلم نجد الله تعالى فرق في قتال الفئة الباغية على الأخرى بين سلطان وغيره ، بل أمر تعالى بقتال من بغى على أخيه المسلم - عموما - حتى يفيء إلى أمر الله تعالى { وما كان ربك نسيا } وكذلك قوله عليه السلام { من قتل دون ماله فهو شهيد } أيضا - عموم - لم يخص معه سلطانا من غيره ، ولا فرق في قرآن ، ولا حديث ، ولا إجماع ولا قياس : بين من أريد ماله ، أو أريد دمه ، أو أريد فرج امرأته ، أو أريد ذلك من جميع المسلمين .

[ ص: 337 ] وفي الإطلاق على هذا هلاك الدين وأهله ، وهذا لا يحل بلا خلاف - وبالله تعالى التوفيق .

قال أبو محمد رحمه الله : ومن أسر من أهل البغي ، فإن الناس قد اختلفوا فيه : أيقتل أم لا ؟ فقال بعض أصحاب أبي حنيفة : ما دام القتال قائما فإنه يقتل أسراهم ، فإذا انجلت الحرب فلا يقتل منهم أسير .

قال أبو محمد رحمه الله : واحتج هؤلاء بأن عليا - رضي الله عنه - قتل ابن يثربي - وقد أتي به أسيرا وقال الشافعي : لا يحل أن يقتل منهم أسير أصلا ما دامت الحرب قائمة ، ولا بعد تمام الحرب - وبهذا نقول .

برهان ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه أنه قال { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو نفس بنفس } .

وأباح الله تعالى دم المحارب ، وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دم من حد في الخمر ثم شربها في الرابعة .

فكل من ورد نص بإباحة دمه : مباح الدم ، وكل من لم يبح الله تعالى دمه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم حرام الدم بقول الله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } ، وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } وأما احتجاجهم بفعل علي - رضي الله عنه - فلا حجة لهم فيه لوجوه : أحدها - أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والثاني - أنه لا يصح مسندا إلى علي رضي الله عنه .

والثالث - أنه لو صح لكان حجة عليهم لا لهم ; لأن ذلك الخبر إنما هو في ابن يثربي ارتجز يوم ذلك ، فقال : [ ص: 338 ]

أنا لمن ينكرني ابن يثربي قاتل عليا وهند الجمل     ثم ابن صوحان على دين علي

فأسر ، فأتي به علي بن أبي طالب ، فقال له : استبقني ؟ فقال له علي : أبعد إقرارك بقتل ثلاثة من المسلمين : عليا ، وهندا ، وابن صوحان - وأمر بضرب عنقه - فإنما قتله علي قودا بنص كلامه - وهم لا يرون القود في مثل هذا ؟ فعاد احتجاجهم به حجة عليهم ، ولاح أنهم مخالفون لقول علي في ذلك ولفعله والرابع - أنه قد صح عن علي النهي عن قتل الأسراء في الجمل وصفين - على ما نذكر إن شاء الله تعالى - فبطل تعلقهم بفعل علي في ذلك ، وما نعلمهم شغبوا بشيء غير هذا .

فإن قالوا : قد كان قتله - بلا خلاف - مباحا قبل الإسار ، فهو على ذلك بعد الإسار حتى يمنع منه نص ، أو إجماع ؟ قلنا لهم : هذا باطل ، وما حل قتله قط قبل الإسار مطلقا ، لكن حل قتله ما دام باغيا مدافعا ، فإذا لم يكن باغيا مدافعا : حرم قتله - وهو إذا أسر فليس حينئذ باغيا ، ولا مدافعا : فدمه حرام .

وكذلك لو ترك القتال وقعد مكانه ولم يدافع لحرم دمه - وإن لم يؤسر - وبالله تعالى التوفيق .

وإنما قال الله تعالى { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } ولم يقل : قاتلوا التي تبقى ، والقتال والمقاتلة فعل من فاعلين ، فإنما حل قتال الباغي ، ومقاتلته ، ولم يحل قتله قط في غير المقاتلة ، والقتال ، فهذا نص القرآن - وبالله تعالى التوفيق .

فإن قالوا نقيسه على المحارب ؟ قلنا : المحارب المقدور عليه يقتل إن رأى الإمام ذلك قبل تمام الحرب وبعدها بلا خلاف في أن حكمه في كلا الأمرين سواء - وأيضا فليس يختلف أحد في أن حكم الباغي غير حكم المحارب ، وبالتفريق بين حكمهما جاء القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية