صفحة جزء
قال أبو محمد رحمه الله : واختلفوا أيضا في الإجهاز على جرحاهم ، والقول [ ص: 339 ] فيهم كالقول في الأسراء سواء ، لأن الجريح إذا قدر عليه فهو أسير ، وأما ما لم يقدر عليه وكان ممتنعا فهو باغ كسائر أصحابه .

وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : قال علي بن أبي طالب : لا يذفف على جريح ، ولا يقتل أسير ، ولا يتبع مدبر - وكان لا يأخذ مالا لمقتول ، يقول : من اعترف شيئا فليأخذه .

ومن طريق عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن جويبر قال : أخبرتني امرأة من بني أسد قالت : سمعت عمارا بعد ما فرغ علي من أصحاب الجمل ينادي : لا تقتلن مدبرا ولا مقبلا ، ولا تذففوا على جريح ، ولا تدخلوا دارا ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ، كالمأسور ، قد قدرنا أن نصلح بينه وبين المبغي عليه بالعدل ، وهو أن نمنعه من البغي ، بأن نمسكه ولا ندعه يقاتل .

وكذلك الجريح إذا قدرنا عليه ، ونص هذه الآية يقتضي تحريم دم الأسير ، ومن قدر عليه ; لأن فيها إيجاب الإصلاح بينهما - نعني الباغي والمبغي عليه - ولا يجوز أن يصلح بين حي وميت ، وإنما يصلح بين حيين - فصح تحريم دم الأسير ، ومن قدر عليه من أهل البغي بيقين .

واختلفوا هل يجوز اتباع مدبرهم ؟ فقالت طائفة : لا يتبع المدبر منهم أصلا .

وقال آخرون : إن كانوا تاركين للقتال جملة ، منصرفين إلى بيوتهم ، فلا يحل اتباعهم أصلا ، وإن كانوا منحازين إلى فئة أو لائذين بمعقل يمتنعون فيه ، أو زائلين عن الغالبين لهم من أهل العدل إلى مكان يأمنونهم فيه لمجيء الليل ، أو ببعد الشقة ثم يعودون إلى حالهم : فيتبعون .

قال أبو محمد رحمه الله : وبهذا نقول ; لأنه نص القرآن ; لأن الله تعالى افترض علينا قتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله تعالى ، فإذا فاءوا حرم علينا قتلهم وقتالهم ، فهم إذا أدبروا تاركين لبغيهم ، راجعين إلى منازلهم ، أو متفرقين عما هم عليه ، فبتركهم البغي صاروا فائين إلى أمر الله ، فإذا فاءوا إلى أمر الله فقد حرم قتلهم ، وإذا حرم قتلهم فلا [ ص: 340 ] وجه لاتباعهم ، ولا شيء لنا عندهم حينئذ .

وأما إذا كان إدبارهم ليتخلصوا من غلبة أهل الحق - وهم باقون على بغيهم - فقتالهم باق علينا بعد ; لأنهم لم يفيئوا بعد إلى أمر الله تعالى .

فإن احتج محتج بما ناه عبد الله بن أحمد الطلمنكي نا أحمد بن مفرج نا محمد بن أيوب الصموت الرقي نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار نا محمد بن معمر نا عبد الملك بن عبد العزيز نا كوثر بن حكيم عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة ؟ قال : الله ورسوله أعلم ، قال : لا يجهز على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ، ولا يقسم فيئها } فإن كوثر بن حكيم ساقط ألبتة متروك الحديث - ولو صح لكان حجة لنا ; لأن الهارب : هو التارك لما هو فيه ، فأما المتخلص ; ليعود فليس هاربا - وبالله تعالى التوفيق .

قال أبو محمد رحمه الله : واختلفوا أيضا في قتال أهل البغي ؟ فقال بعض أصحاب الحديث : تقسم أموالهم وتخمس - وبه قال الحسن بن حي : أموال اللصوص المحاربين مغنومة مخمسة ، ما كان منها في عسكرهم .

وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة : ما وجد في أيدي أهل البغي من السلاح والكراع فإنه فيء يقسم ويخمس - ولم ير ذلك في غير السلاح والكراع .

وقال أبو حنيفة وسائر أصحابه : أما ما دامت الحرب قائمة فإنه يستعان في قتالهم بما أخذ من سلاحهم وكراعهم خاصة ; فإذا تلف من ذلك شيء في حال الحرب فلا ضمان فيه ، فإذا وضعت الحرب أوزارها لم يؤخذ شيء من أموالهم لا سلاح ، ولا كراع ، ولا غير ذلك - يرد عليهم ما بقي مما قاتلوا به في الحرب من سلاحهم وكراعهم وقال مالك ، والشافعي ، وأصحابنا : لا يحل لنا شيء من أموالهم : لا سلاح ، ولا كراع ، ولا غير ذلك - لا في حال الحرب ولا بعدها ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه ، بعون الله تعالى .

[ ص: 341 ] فنظرنا فيما احتج به أبو حنيفة ، وأصحابه ، بأن يستعمل سلاحهم ، وكراعهم ما دامت الحرب قائمة - فلم نجد لهم في ذلك حجة أصلا ، لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا سقيمة ، ولا من قول صاحب ، ولا إجماع - وما كان هكذا فهو باطل بلا شك ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } والسلاح والكراع مال من مالهم فهو محرم على غيرهم ، لكن الواجب أن يحال بينهم وبين كل ما يستعينون به على باطلهم ; لقول الله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } .

فصح بهذا يقينا أن تخليتهم يستعملون السلاح في دماء أهل العدل والكراع في قتالهم تعاون على الإثم والعدوان فهو محرم بنص القرآن .

وصح أن الحيلولة بينهم وبين السلاح والكراع في حال البغي : تعاون على البر والتقوى ، وأما استعماله فلا يحل ; لما ذكرنا ، إلا أن يضطر إليه فيجوز حينئذ ، ومن اضطر إلى الدفاع عن نفسه بحق ففرض عليه أن يدفع الظلم عن نفسه ، وعن غيره ، بما أمكنه من سلاح نفسه أو سلاح غيره ، فإن لم يفعل فهو ملق بيده إلى التهلكة ، وهذا حرام عليه - فسقط قول أبي حنيفة وأصحابه .

ثم نظرنا في قول أبي يوسف فلم نجد لهم شبهة إلا خبرا رواه فطر بن خليفة عن محمد بن الحنفية : أن عليا قسم يوم الجمل فيهم بين أصحابه ما قوتل به من الكراع والسلاح - وهذا خبر فاسد ، لأن فطرا ضعيف .

وذكروا أيضا ما كتب به إلى يوسف بن عبد البر النمري قال : نا أحمد بن محمد بن الجسور نا محمد بن عيسى بن رفاعة الخولاني نا بكر بن سهل نا نعيم بن حماد نا محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن أبي البختري ، والشعبي ، وأصحاب علي " عن علي أنه لما ظهر على أصحاب الجمل بالبصرة يوم الجمل جعل لهم ما في عسكر القوم من السلاح ، فقالوا : كيف تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم ولا نساؤهم ؟ قال : هاتوا سهامكم فأقرعوا على عائشة ، فقالوا : نستغفر الله ، فخصمهم علي رضي الله عنه وعرفهم أنها إذا لم تحل لم يحل بنوها " وهذا أيضا أثره ضعيف ، ومداره على نعيم بن حماد وهو الذي روى بإسناد أحسن من هذا عن النبي [ ص: 342 ] صلى الله عليه وسلم { تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أشدها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال } فإن أجازوه هنا فليجيزوه هنالك .

ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة ; لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم قولة لعلي رضي الله عنه قد خالفوها بآرائهم .

ثم نظرنا فيما ذهب إليه الحسن بن حي فلم نجد لهم علقة إلا من طريق عبد الرزاق عن ابن عيينة عن أصحابه عن حكيم بن جبير عن عصمة الأسدي قال : بهش الناس إلى علي فقالوا : اقسم بيننا نساءهم وذراريهم ، فقال علي : عنتني الرجال فعنيتها وهذه ذرية قوم مسلمين في دارهم ، لا سبيل لكم عليهم ما أوت الدار من مال فهو لهم ، وما أجلبوا به عليكم في عسكرهم فهو لكم مغنم .

قال أبو محمد رحمه الله : وهذا خبر في غاية الفساد ; لأن ابن عيينة - رحمه الله - رواه عن أصحابه الذين لا يدرى من هم ، ثم عن حكيم بن جبير - وهو هالك كذاب فلم يبق إلا من قال : إن جميع أموالهم مخمسة مغنومة ، وقول من قال : لا يحل منها شيء فنظرنا في تلك .

فوجدناهم يحتجون بما نا به حمام بن أحمد قال نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن زهير بن حرب نا عفان بن مسلم نا محمد بن ميمون نا محمد بن سيرين عن أخيه معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يخرج ناس من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه سيماهم التحليق والتسبيد } .

ومن طريق مسلم ني محمد بن المثنى نا محمد بن أبي عدي عن سليمان - هو الأعمش - عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق وهم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق } ، وذكر باقي الخبر .

[ ص: 343 ] قالوا : وقد قال الله تعالى { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } .

قالوا : فمن الباطل المتيقن أن يكونوا مسلمين ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم شر الخلق ، أو من شر الخلق ، فالخلق والبرية سواء ، قالوا : فإذ هم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شر الخلق ، وقد مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه أبدا ، فهم بيقين من المشركين ، الذين قال الله تعالى : إنهم { شر البرية } لا من الذين آمنوا الذين شهد الله تعالى لهم أنهم من { خير البرية } فأموالهم مغنومة مخمسة كأموال الكفار .

قال أبو محمد رحمه الله : وهذا قول صحيح ، واحتجاج صادق ، إلا أنه مجمل غير مرتب ، والصحيح من هذا هو جمع الآيات والأحاديث ، فمن خرج بتأويل هو فيه مخطئ ، لم يخالف فيه الإجماع ، ولا قصد فيه خلاف القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتعمد خلافهما ، أو يعند عنهما بعد قيام الحجة عليه ، أو خرج طالبا غلبة في دنيا ، ولم يخف طريقا ، ولا سفك الدم جزافا ، ولا أخذ المال ظلما ، فهذا هو الباغي الذي يصلح بينه وبين من بغى عليه ، على ما في آية البغاة وعلى ما قال عليه السلام من خروج المارقة بين الطائفتين من أمته ، إحداهما باغية ، وهي التي تقتل عمارا ، والأخرى أولى بالحق ، وحمد عليه السلام من أصلح بينهما .

كما روينا من طريق البخاري نا صدقة نا ابن عيينة نا أبو موسى عن الحسن سمع أبا بكرة قال { سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر ، والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة ، وإليه مرة ، ويقول : ابني هذا سيد ، ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين } فإن زاد الأمر حتى يخيفوا السبيل ، ويأخذوا مال المسلمين غلبة ، بلا تأويل ، أو يسفكوا دما كذلك ، فهؤلاء محاربون لهم حكم المحاربة ، فإن زاد الأمر حتى يخرقوا الإجماع فهم مرتدون : تغنم أموالهم كلها حينئذ وتخمس وتقسم - وبالله تعالى التوفيق .

[ ص: 344 ] ولا يحل مال المحارب ، ولا مال الباغي ولا شيء منه ; لأنهما وإن ظلما فهما مسلمان - ولا يحل شيء من مال المسلم ، إلا بحق ، وقد يحل دمه ، ولا يحل ماله ، كالزاني المحصن ، والقاتل عمدا - وقد يحل ماله ولا يحل دمه ، كالغاصب ونحو ذلك ، وإنما يتبع النص ، فما أحل الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام من دم أو مال حل ، وما حرما من دم أو مال فهو حرام ، والأصل في ذلك التحريم حتى يأتي إحلال ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية