صفحة جزء
2163 - مسألة : قال أبو محمد رحمه الله : ولو أن رجلا من أهل العدل قتل في الحرب رجلا من أهل العدل ، ثم قال : حسبته من أهل البغي ، فإن كان ما يقول ممكنا ، فالقول قوله مع يمينه ، ثم يضمن ديته في ماله ; لأنه لم يقتله خطأ بل قتله عمدا قصدا إلى قتله إلا أنه لم يعلم أنه حرام الدم ، فلذلك لم يقد منه - وإن لم يمكن ما قال فعليه القود ، أو الدية باختيار أولياء المقتول وهكذا القول - سواء سواء ، إذا قتله في أرض الحرب ، ولا فرق .

[ ص: 357 ] وكذلك لو رجع إلينا بعض أهل البغي تائبا فقتله رجل من أهل العدل وقال : إني ظننته دخل ليطلب غرة ، فإن نكل هؤلاء عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا ولا بد ; لأن اليمين قد وجبت عليهم ، ولا قود أصلا ; لأنه لم يثبت عليهم ما يوجب القود من التعمد وهم عالمون .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا كانت جماعة من أهل العدل والسنة في عسكر الخوارج وأهل البغي ، فقتل بعضهم بعضا عمدا ، وجرح بعضهم بعضا عمدا ، وأخذ بعضهم مال بعض عمدا ، فلا شيء في ذلك : لا قود ، ولا دية - غلب أهل الجماعة والإمام العدل عليهم بعد ذلك : أو لم يغلبوا ؟ قال أبو محمد رحمه الله : ما لهذا القول جواب إلا أنه حكم إبليس ، والله ما ندري كيف انشرحت نفس مسلم لاعتقاد هذا القول المعاند لله تعالى ، ولرسوله عليه السلام ، أو كيف انطلق لسان مؤمن يدري أن الله تعالى أمره ونهاه بهذا القول السخيف - ونسأل الله تعالى عافية شاملة - كأن أصحاب هذا القول لم يسمعوا ما أنزل الله تعالى من وجوب القصاص في النفوس ، والجراح ، ومن تحريم الأموال ، في القرآن ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .

وهذا قول ما نعلم فيه لأبي حنيفة سلفا : لا من صاحب ولا من تابع ، ونبرأ إلى الله تعالى من هذا القول ، فإنما موهوا بما روي من حديث عبيد الله بن عمر : كما ثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، وذكر قتل عمر ، قال : فأخبرني سعيد بن المسيب أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ولم نجرب عليه كذبة قط ، قال : حين قتل عمر بن الخطاب انتهيت إلى الهرمزان ، وجفينة ، وأبي لؤلؤة - وهم بحي - فتبعتهم فثاروا وسقط من بينهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه . وقال عبد الرحمن فانظروا بما قتل به عمر فوجدوه خنجرا على النعت الذي نعت عبد الرحمن ، فخرج عبيد الله بن عمر بن الخطاب مشتملا على السيف حتى أتى الهرمزان فقال : اصحبني ننظر إلى فرس لي - وكان الهرمزان بصيرا بالخيل - فخرج بين يديه ، فعلاه عبيد الله بالسيف ، فلما وجد حد السيف قال : لا إله إلا الله ، فقتله . [ ص: 358 ] ثم أتى جفينة - وكان نصرانيا - فلما أشرف له علاه بالسيف فضربه فصلب ما بين عينيه - ثم أتى ابنة أبي لؤلؤة - جارية صغيرة تدعي الإسلام - فقتلها ، فأظلمت الأرض يومئذ على أهلها . - ثم أقبل بالسيف صلتا في يده وهو يقول : والله لا أترك في المدينة سبيا إلا قتلته وغيرهم ؟ كأنه يعرض بناس من المهاجرين ، فجعلوا يقولون له : ألق السيف ، فأبى - ويهابونه أن يقربوا منه - حتى أتاه عمرو بن العاص فقال : أعطني السيف يا ابن أخي ؟ فأعطاه إياه ، ثم ثار إليه عثمان فأخذ برأسه ، فتناصبا حتى حجز الناس بينهما . - فلما ولي عثمان قال : أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق - يعني عبيد الله بن عمر - فأشار عليه المهاجرون أن يقتله ، وقال جماعة من الناس : قتل عمر بالأمس وتريدون أن تتبعوه ابنه اليوم ، أبعد الله الهرمزان ، وجفينة ؟ فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الأمر ولك على الناس من سلطان ، إنما كان هذا الأمر ولا سلطان لك ، فاصفح عنه يا أمير المؤمنين قال : فتفرق الناس على خطبة عمرو ، وودى عثمان الرجلين والجارية .

قال الزهري : وأخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن أباه قال : فيرحم الله حفصة أن كانت لمن شيع عبيد الله على قتل الهرمزان ، وجفينة - قال معمر : قال غير الزهري : قال عثمان : أنا ولي الهرمزان ، وجفينة ، والجارية ، وإني قد جعلتها دية .

قال أبو محمد رحمه الله : وقد روينا عن أحمد بن محمد عن أحمد بن الفضل عن محمد بن جرير بإسناد لا يحضرني الآن ذكره : أن عثمان أقاد ولد الهرمزان من عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وأن ولد الهرمزان عفا عنه .

قال أبو محمد رحمه الله : وأي ذلك كان فلا حجة لهم في شيء منه ; لأن عبيد الله بن عمر لم يقتل من قتل في عسكر أهل البغي ، ولا في وقت كان فيه باغ من المسلمين على وجه الأرض يعرف في دار الهجرة ، ومحلة الجماعة وصحة الألفة ، وفي أفضل عصابة وأعدلها .

وهذا خلاف قولهم في المسألة التي نحن فيها من قتل في عسكر أهل البغي وهم [ ص: 359 ] لا يقولون بإهدار القود عمن قتل في الجماعة بين موت إمام وولاية آخر ، فقد خالفوا عثمان ومن معه في هذه القصة .

وأيضا - فإن في هذا الخبر : أن عثمان جعلها دية - وهذا خلاف قولهم ; لأنهم لا يرون في ذلك دية ، والواجب أن نحكم في كل ذلك كما نحكم في محلة الجماعة ولا فرق ; لأن دين الله تعالى واحد في كل مكان ، وكل زمان ، وعلى كل لسان ، وما خص الله تعالى بإيجاب القود ، وأخذ الحدود ، وضمان الأموال وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان ، وسائر شرائع الإسلام مكانا دون مكان ، ولا زمانا دون زمان ، ولا حالا دون حال ، ولا أمة دون أمة - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية