صفحة جزء
[ ص: 3 ] كتاب الحدود 2167 - مسألة : قال أبو محمد رحمه الله : لم يصف الله تعالى حدا من العقوبة محدودا لا يتجاوز في النفس ، أو الأعضاء ، أو البشرة ، إلا في سبعة أشياء : وهي : المحاربة ، والردة ، والزنى ، والقذف بالزنى ، والسرقة ، وجحد العارية ، وتناول الخمر في شرب أو أكل فقط - وما عدا ذلك فلا حد لله تعالى محدودا فيه - ولا حول ولا قوة إلا بالله .

ونحن - إن شاء الله - ذاكرون ما فيه الحدود مما ذكرنا بابا بابا - وبالله تعالى التوفيق - ثم نذكر - إن شاء الله تعالى - أشياء لا حد فيها ، وادعى قوم : أن فيها حدودا - وبالله تعالى نتأيد .

ثم نذكر - إن شاء الله تعالى - قبل ذلك أبوابا تدخل في جميع الحدود ، أو في أكثرها ، فإن جمعها في كتاب واحد أولى من تكرارها في كل كتاب من كتب الحدود - وبالله تعالى التوفيق .

وهو أيضا - حصرها لمن يطلبها ، وأبين لاجتماعها في مكان واحد ، إذ ليس كتاب من كتب الحدود أولى بهذه الأبواب من سائر كتب الحدود - وبالله تعالى التوفيق .

وهي : الحديث الوارد { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } مع سائر ما ذكر فيه من الخمر ، والسرقة ، والنهبة .

وهل تقام الحدود في المساجد أم لا ؟ . [ ص: 4 ]

وهل الحدود كفارة أم لا ؟ .

واجتماع الحدود مع القتل ، والتوكيل في إقامة الحدود ؟ وهل تقام الحدود بعلم الحاكم أم لا ؟ والسجن في التهمة ، والامتحان بالضرب ، والاعتراف بالإكراه ، وما الإكراه والاستتابة في الحدود ؟ ومتى يقام الحد على الجارية والغلام ؟ واعتراف العبد بالحد ، والشهادة في الحدود ، والتأجيل في الحد والتعافي في الحدود قبل بلوغها إلى السلطان والترغيب في إمامة من قال : لا يؤاخذ الله عبدا بأول ذنب - ادرءوا الحدود بالشبهات - الرجوع عن الاعتراف بالحد ؟ الاعتراض على الحاكم في حكمه بالحد ، هل يكشف ويسأل من ذكر عنه حد أم لا ؟ هل تقام الحدود على الكفار أم لا ؟ كيف حد العبد من حد الحر ؟ كيف حد المكاتب ؟ 2168 - مسألة : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا ترجعوا بعدي كفارا ؟ قال أبو محمد رحمه الله : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح أنا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج ثنا حرملة بن يحيى بن عبيد الله بن عمر التجيبي حدثني ابن وهب حدثني يونس بن يزيد [ ص: 5 ] عن ابن شهاب قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن ، وسعيد بن المسيب يقولان قال أبو هريرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن } .

وبه - إلى مسلم نا محمد بن المثنى ، ومحمد بن رافع ، قال ابن رافع : نا عبد الرزاق نا سفيان بن عيينة ، وقال ابن المثنى : أنا ابن أبي عدي عن شعبة ، ثم اتفق شعبة ، وسفيان كلاهما عن سليمان - هو الأعمش - عن ذكوان أبي صالح عن أبي هريرة : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، والتوبة معروضة بعد } هذا لفظ شعبة .

وقال سفيان في حديثه ، رفعه : نا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا محمد بن أحمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الرقي ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا محمد بن عمر بن هياج نا عبد الله بن موسى القيسي نا مبارك بن حسان عن عطاء نا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يقتل القاتل حين يقتل وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يختلس خلسة وهو مؤمن ، يخلع منه الإيمان كما يخلع منه سرباله ، فإذا رجع إلى الإيمان رجع إليه ، وإذا رجع رجع إليه الإيمان } .

نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا عيسى بن حماد بن زغبة نا الليث هو ابن سعد - عن عقيل بن خالد عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر شاربها حين يشربها وهو مؤمن ، ولا [ ص: 6 ] يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة فيرفع الناس فيها إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن } .

ومن طريق أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن منصور ، ومحمد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري - واللفظ له - عن محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن [ وأبي سلمة بن عبد الرحمن ] وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يزني الزاني وهو حين يزني مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو حين يسرق مؤمن ، ولا يشرب الخمر وهو حين يشربها مؤمن ، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس فيها أبصارهم وهو حين ينتهبها مؤمن } .

ومن طريق أحمد بن شعيب أنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام نا إسحاق الأزرق عن الفضل بن غزوان عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن . فقلت لابن عباس : كيف ينتزع الإيمان منه ؟ فشبك أصابعه ، ثم أخرجها ، فقال : هكذا ، فإذا تاب عاد إليه هكذا ، وشبك أصابعه } .

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول { لا يسرق سارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يزني زان حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الحدود - يعني الخمر - أحدكم حين يشربها وهو مؤمن والذي نفس محمد بيده لا ينتهب أحدكم نهبة ذات شرف يرفع إليه المؤمنون أعينهم فيها وهو حين ينتهبها مؤمن ، ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن ثم قال أبو هريرة إياكم إياكم } .

ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : { كنا عند عائشة فمر جلبة على بابها فسمعت الصوت ، فقالت : ما هذا ؟ فقالوا : رجل ضرب في الخمر ، فقالت : سبحان الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب - يعني الخمر - حين يشرب وهو مؤمن ، فإياكم وإياكم } . [ ص: 7 ] قال أبو محمد رحمه الله : هذا أثر صحيح ثابت ، لا مغمز فيه ، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أم المؤمنين ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، بالأسانيد التامة التي ذكرنا .

ورواه عن أبي هريرة سعيد بن المسيب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وأبو سلمة ، وحميد : ابنا عبد الرحمن بن عوف ، وعطاء بن يسار أخو سليمان بن يسار ، وعطاء بن أبي رباح ، وهمام بن منبه .

ورواه عن ابن عباس عكرمة ، وعن أم المؤمنين عباد بن عبد الله .

ورواه عن هؤلاء : الناس ، فهو نقل تواتر يوجب صحة العلم ، وذكر فيه كما أوردنا : القتل ، والزنى ، والخمر ، والسرقة ، والنهبة ، والغلول .

فاختلف الناس في تأويله ، وما هو هذا الإيمان الذي يزايله حين مواقعته هذه الذنوب : فروينا من طريق عطاء عن أبي هريرة مسندا كما أوردنا آنفا أنه يخلع منه الإيمان كما يخلع سرباله فإذا رجع رجع إليه الإيمان .

وروينا عن ابن عباس كما أوردنا أنه فسر انتزاع الإيمان منه : بأن شبك أصابع يديه بعضها في بعض ، ثم زايلها قال : وهكذا ، ثم ردها وقال : فإذا تاب عاد إليه .

ورويناه أيضا في ذلك عن ابن عباس من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يعرض على مملوكه الباءة ، ويقول : من أراد منكم الباءة زوجته ؟ فإنه لا يزني زان إلا نزع الله منه ربقة الإيمان ، فإن شاء أن يرده إليه رده بعد ، وإن شاء أن يمنعه منعه .

وروينا من طريق عبد الرزاق نا ابن جريج قال : سمعت عطاء يقول : سمعت أبا هريرة يقول : لا يزني الزاني وهو مؤمن حين يزني ، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن حين يشرب - قال : لا أعلمه إلا قال : وإذا اعتزل خطيئته رجع إليه الإيمان - قال : فراجعته ؟ فقال : لا أعلمه إلا قال : فينتزع منه الإيمان ما دام على خطيئته ، فإذا فارقها رجع إليه الإيمان .

قال ابن جريج : وأخبرني عثمان بن أبي سليمان أنه سمع نافع بن جبير بن مطعم [ ص: 8 ] يقول : لا يزني وهو مؤمن حين يزني ، فإذا زايله رجع إليه الإيمان ليس إذا تاب منه ، ولكن إذا أخر عن العمل به - قال : وحسبته أنه ذكر ذلك عن ابن عباس .

وعن عبد الرزاق عن معمر أخبرني عبد الله بن طاوس عن أبيه ، فذكر هذا الحديث ، وقال : فإذا فعل ذلك زال عنه الإيمان ، يقال : الإيمان كالظل .

وذكر أيضا معمر هذا الحديث عن الزهري ، وقتادة ، وعن رجل عن عكرمة عن أبي هريرة ، وعن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري { عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : هذا نهي ، يقول : حين هو مؤمن فلا يفعلن - يعني : لا يسرق ، ولا يزني ، ولا يغل } .

قال أبو محمد رحمه الله : فهذه التفاسير كلها ليس فيها إلا مزايلة الإيمان للفاعل حين الفعل ، ثم رجوعه في بعضها إليه إذا تاب ، وإذا ترك .

وليس في شيء من هذه التفاسير بيان ما هو الإيمان الزائل حين هذه المعاصي ؟ وقد علمنا أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الحق الواضح ، الذي لا حقيقة في غيره ، وأن من فعل شيئا لم يكن حين فعله إياه مؤمنا ، فإن الإيمان قد فارقه بلا شك ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

لكن يجب علينا أن نعرف ما هذا الإيمان الذي يزول عنه في حين ذلك الفعل ؟ لنعلم من ذلك حكم ذلك الفاعل - بعون الله تعالى ومنه : فنظرنا في ذلك ، فوجدنا الناس في تفسير لفظة " الإيمان " قد افترقوا على أربعة أقوال : فقال أهل الحق : الإيمان اسم واقع على ثلاثة معان - : أحدها : العقد بالقلب - والآخر : النطق باللسان - والثالث : عمل بجميع الطاعات - فرضها ونفلها - واجتناب المحرمات .

وقالت طائفة - مخطئة - : إن الإيمان اسم واقع على معنيين ، وهما : العقد بالقلب ، والنطق باللسان فقط ، وأن أعمال الطاعات ، واجتناب المحرمات : إنما هي شرائع الإيمان ، وليست إيمانا ، وهذه مقالة - وإن كانت فاسدة - فصاحبها لا يكفر .

وقالت طائفتان قولين خرجا بهما إلى الكفر صراحا :

أحدهما : جهم بن صفوان السمرقندي ، ومن قلده وائتم به فإنهم قالوا : الإيمان [ ص: 9 ] هو التصديق بالقلب فقط ، وإن أعلن الكفر ، وجحد النبوة ، وصرح بالتثليث ، وعبد الصليب في دار الإسلام ، دون تقية .

والآخر : محمد بن كرام السجستاني ، ومن اتبعه واقتدى به ، فإنهم قالوا : الإيمان التصديق باللسان فقط ، وإن اعتقد الكفر بقلبه .

فلزم الطائفة الأولى : أن إبليس مؤمن ، وأن اليهود والنصارى الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنون أولياء الله تعالى من أهل الجنة ، لأن كل هؤلاء عرفوا الله تعالى بقلوبهم ، وعرفوا صحة نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم بقلوبهم ، وجدوه مكتوبا عندهم في التوراة ، والإنجيل ، أو أن يكذب الله تعالى في إخباره بصحة علم إبليس بالله تعالى وبنبوة الأنبياء عليهم السلام .

ولزم الطائفة الثانية : أن المنافقين الذي شهد الله تعالى بأنهم من أهل النار مؤمنون ، أولياء الله تعالى ، من أهل الجنة - وهذا كفر مجرد .

وكلا القولين خرق للإجماع ، ومخالفة لأهل الإسلام .

قال أبو محمد رحمه الله : فيلزم من قال : إن الإيمان المزايل للزاني في حين زناه ، وللقاتل في حين قتله ، وللسارق في حين سرقته ، وللغال في حين غلوله ، وللشارب في حين شربه ، وللمنتهب في حال نهبته : أنه التصديق أن يقول : القاتل ، والزاني ، والغال ، والمنتهب ، والشارب : قد بطل تصديقهم ومن بطل تصديقه فهو كافر .

فيلزمه أن لا يؤخذ من أحد من هؤلاء زكاة ، ولا يترك يصلي في مسجد مع المسلمين ; ولا أن يدخل الحرم ، ولا أن يبتدئ نكاح مسلمة ، وإن مات له قريب في تلك الحال أن لا يرثه - وهذا خلاف لإجماع الصحابة ومن يعتد به بعدهم ، وهم لا يقولون هذا - يعني من لم يكن منهم ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فإذ لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله المذكور في هذا الحديث أن الزاني كافر ، ولا أن القاتل كافر ، ولا أن المنتهب كافر ، ولا أن الغال كافر ، ولا أن الشارب كافر ، ولا أن السارق كافر .

وصح أنهم لو كانوا كفارا للزمهم ما يلزم المرتد عن دينه من القتل ، وفراق [ ص: 10 ] الزوجة ، واستيفاء المال - فبيقين ندري أنه عليه السلام لم يعن بذهاب الإيمان المذكور ذهاب تصديقه .

وأيضا - فبضرورة الحس يدري من واقع شيئا من الذنوب المذكورة من المسلمين من نفسه : أن تصديقه لم يزل ، وأنه كما كان ، وكل قول تكذبه الضرورة فهو قول متيقن السقوط ؟ فقد صح ما قلنا : إن الإيمان المزايل له في حال هذه الأفاعيل إنما هو الإيمان الذي هو الطاعة لله تعالى فقط .

وهذا أمر مشاهد باليقين ، لأن الزنى ، والقتل ، والغلول ، والنهبة ، وشرب الخمر ، ليس شيء منها طاعة لله تعالى ، فليست إيمانا ، فإذ ليس شيء منها إيمانا ، ففاعلها ليس مؤمنا ، بمعنى ليس مطيعا ، إذ لم يفعل الطاعة ، لكنه عاص وفاسق ، ومن فعل الإيمان فهو مؤمن ، وكل من ذكرنا لم يفعل في فعله تلك الأفعال إيمانا ، فليس مؤمنا .

وهذا الحديث من الحجج القاطعة على أن الطاعات كلها إيمان ، وأن ترك الطاعة ليس إيمانا - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية