صفحة جزء
2183 - مسألة : هل تدرأ الحدود بالشبهات أم لا ؟ قال أبو محمد رحمه الله : ذهب قوم إلى أن الحدود تدرأ بالشبهات ، فأشدهم قولا بها واستعمالا لها أبو حنيفة ، وأصحابه ، ثم المالكيون ، ثم الشافعيون .

وذهب أصحابنا إلى أن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة ، ولا أن تقام بشبهة وإنما هو الحق لله تعالى ولا مزيد ، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام } وإذا ثبت [ ص: 58 ] الحد لم يحل أن يدرأ بشبهة لقول الله تعالى { تلك حدود الله فلا تعتدوها } .

قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في اللفظ الذي يتعلق به من تعلق أيصح أم لا ؟ [ ص: 59 ] فنظرنا فيه فوجدناه قد جاء من طرق ليس فيها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص ، ولا كلمة ، إنما هي عن بعض أصحاب من طرق كلها لا خير فيها : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب قال : ادرءوا الحدود ما استطعتم

وبه - إلى سفيان الثوري عن القاسم بن عبد الرحمن قال قال ابن مسعود : ادرءوا الحدود ما استطعتم

وعن أبي هريرة ادفعوا الحدود ما وجدتم مدفعا

عن ابن عمر قال : ادفعوا الحدود بالشبهات

وعن عائشة ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم

وعن عمر بن الخطاب ، وابن مسعود كانا يقولان : ادرءوا عن عباد الله الحدود فيما شبه عليكم

قال أبو محمد رحمه الله : وهي كلها لا شيء : أما من طريق عبد الرزاق فمرسل ، والذي من طريق عمر كذلك ، لأنه عن إبراهيم عن عمر ولم يولد إبراهيم إلا بعد موت عمر بنحو خمسة عشر عاما

والآخر الذي عن ابن مسعود مرسل ، لأنه من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود

وأما أحاديث ابن حبيب ففضيحة ، لو لم يكن فيها غيره لكفى فكلها مرسلة

قال أبو محمد رحمه الله : فحصل مما ذكرنا أن اللفظ الذي تعلقوا به لا نعلمه روي عن أحد أصلا ، وهو " ادرءوا الحدود بالشبهات " لا عن صاحب ، ولا عن تابع إلا الرواية الساقطة التي أوردنا من طريق إبراهيم بن الفضل عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ، وإبراهيم ساقط

وإنما جاء كما ترى عن بعض الصحابة مما لم يصح " ادرءوا الحدود ما استطعتم " وهذا لفظ إن استعمل أدى إلى إبطال الحدود جملة على كل حال - وهذا [ ص: 60 ] خلاف إجماع أهل الإسلام ، وخلاف الدين ، وخلاف القرآن ، والسنن ، لأن كل أحد هو مستطيع على أن يدرأ كل حد يأتيه فلا يقيمه

فبطل أن يستعمل هذا اللفظ وسقط أن تكون فيه حجة لما ذكرنا

وأما اللفظ الآخر في ذكر الشبهات ؟ فقد قلنا : " ادرءوا " لا نعرفه عن أحد أصلا ، إلا ما ذكرنا مما لا يجب أن يستعمل فقط ; لأنه باطل لا أصل له ، ثم لا سبيل لأحد إلى استعماله ، لأنه ليس فيه بيان ما هي تلك " الشبهات " فليس لأحد أن يقول في شيء يريد أن يسقط به حدا " هذا شبهة " إلا كان لغيره أن يقول : ليس بشبهة ، ولا كان لأحد أن يقول في شيء لا يريد أن يسقط به حدا : ليس هذا شبهة ، إلا كان لغيره أن يقول : بل هو شبهة ، ومثل هذا لا يحل استعماله في دين الله تعالى ، إنه لم يأت به قرآن ، ولا سنة صحيحة ، ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ، ولا معقول ، مع الاختلاط الذي فيه كما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق

قال أبو محمد رحمه الله : فإن شغب مشغب بما رويناه من طريق البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان ، والمعاصي حمى الله ، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه } فإن هذا صحيح ، وبه نقول ، وهو عليهم لا لهم ، لأنه ليس فيه إلا ترك المرء ما اشتبه عليه ، فلم يدر ما حكمه عند الله تعالى في الذي له تعبدنا به ، وهذا فرض لا يحل لأحد مخالفته

وهكذا نقول : إن من جهل - أحرام هذا الشيء أم حلال ؟ فالورع له أن يمسك عنه ، ومن جهل أفرض هو أم غير فرض ؟ فحكمه أن لا يوجبه ، ومن جهل أوجب الحد أم لم يجب ؟ ففرضه أن لا يقيمه ، لأن الأعراض والدماء حرام لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن [ ص: 61 ] دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام } وأما إذا تبين وجوب الحد فلا يحل لأحد أن يسقطه ، لأنه فرض من فرائض الله تعالى

قال أبو محمد رحمه الله : ما نعلم أحدا أشد جسرا على إقامة الحد بالشبهات وحيث لا تجب إقامتها منهم ، ثم يسقطونها حيث أوجبها الله تعالى ورسوله عليه السلام ، ونحن ذاكرون من ذلك طرفا كافيا إن شاء الله تعالى ، فأول ذلك النفس التي عظم الله تعالى أمرها وحرم قتلها إلا بالحق

فأما المالكيون - فقتلوا النفس المحرمة بدعوى من لعله يريد أن يشفي نفسه من عدوه مع أيمان رجلين من عشيرته وإن كانا أفسق البرية ، وهم لا يعطونه بدعواه نواة معفونة ، ولو حلفوا مع دعواه ألف يمين وكانوا أصلح البرية ، هذا سفك الدم المحرم بالشبهة الفاسدة التي لا شبهة أبرد منها

ويقتلون بشهادة اللوث غير العدل والقسامة ، ولا يعطون بشهادتهم فلسين ، ويقتلون الآبي عن الصلاة إن أقر بها ، وأنها فرض ، ويقتلون الممسك آخر حتى قتل ، ولا يحدون الممسك امرأة حتى يزنى بها ، ويقتلون الساحر دون استتابة ، وإنما هي حيل ، وكبيرة كالزنى ، ولا يقتلون آكل الربا ، وقول الله تعالى فيه أشد من قوله في الساحر ، ويقتلون المستتر بالكفر - ولا يدرءون عنه بإعلانه التوبة ، ولا يقتلون المعلن بالكفر إذا أظهر التوبة ، ولا فرق ، ويقتلون المسلم بالكافر إذا قتله غيلة ، ولا يجيزون في ذلك عفو الولي - وهذا خلاف القرآن ، والسنة ، وإقامة الحدود بالشبهة الفاسدة ، ويجلدون القاتل المعفو عنه مائة جلدة ، وينفونه سنة

وأما الحنفيون - فيقتلون المسلم بالكافر خلافا على الله تعالى ، وعلى رسوله عليه السلام ، ومحافظة لأهل الكفر ، ولا يقتلون الكافر إذا سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحضرة أهل الإسلام في أسواقهم ومساجدهم ، ولا يقتلون من أهل الكفر من سب الله تعالى جهارا بحضرة المسلمين - وهذه أمور نعوذ بالله منها - ويقتلون الذمي الذي قد حرم دمه إلا بالحق بشهادة كافرين

وأما الزنى : فإن المالكيين - يحدون بالحبل ولعله من إكراه - ويرجمون [ ص: 62 ] المحصن إذا وطئ امرأة أجنبية في دبرها ، أو فعل فعل قوم لوط - محصنا كان أو غير محصن - ولا يحدون واطئ البهيمة - ولا المرأة تحمل على نفسها كلبا - وكل ذلك إباحة فرج بالباطل ، ولا يحدون التي تزني - وهي عاقلة بالغة مختارة - بصبي لم يبلغ ، ويحدون الرجل إذا زنى بصبية من سن ذلك الصبي

وأن ابن القاسم لا يحد النصراني ، ولا اليهودي ، إذا زنى بمسلمة ، ويطلقون الحربي النازل عندنا بتجارة ، والمتذمم يغرم الجزية على تملك المسلمات اللواتي سباهن قبل نزوله ، وتذممه من حرائر المسلمات من القرشيات والأنصاريات ، وغيرهن ، وعلى وطئهن ، وبيعهن صراحا مباحا - وهذه قولة ما سمع بأفحش منها ؟ 2184 - مسألة : وأما السرقة : فإن المالكيين يقطعون فيها الرجلين بلا نص ثابت ولا إجماع ، ويقطعون من دخل منزل إنسان فأخرج منه ما يساوي ثلاثة دراهم ، وقال : إن صاحب الدار أرسلني في هذه الحاجة وصدقه صاحب الدار ، ولا يلتفتون إلى شيء من هذا ، أو يقطعون يده مطارفة ، ويقطعون جماعة سرقت ربع دينار فقط ، ورأوا - في أحد أقوالهم - أنه إذا غلط بالسارق فقطعت يساره أنه تقطع اليد الأخرى - فقطعوا يديه جميعا في سرقة واحدة ، وما عين الله تعالى قط يمنى من يسرى ، والحنفيون يقطعون فيها الرجل بعد اليد بغير نص ولا إجماع

وأما القذف : فإن المالكيين يحدون حد القذف ، في التعريض ، ويسقطون جميع الحدود بالقتل حاشا حد القذف ، فإن كانوا يسقطون سائر الحدود بالشبهة ، فما بالهم لا يسقطون حد القذف أيضا بالشبهة ؟ وقالوا : إنما فعلنا ذلك خوف أن يقال للمقذوف : لو لم يكن الذي قذفك صادقا لحد لك ، ففي أي دين وجدوها من قرآن أو سنة أو قياس ؟ ويحدون شارب الخمر ، ولو جرعة منه خوف أن يقذف أحدا بالزنى ، وهو لم يقذف أحدا بعد ، فأي عجب في إقامة الحدود بلا شبهة ، ويتعلقون برواية ساقطة عن بعض الصحابة ، قد أعاذهم الله تعالى من مثلها

ويحدون من قال لآخر : لست ابن فلان إذا نفاه عن أبيه

ويحدون من قذف امرأته بإنسان سماه ، وإن لاعن امرأته ، وهذا خلاف لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجرد [ ص: 63 ]

ويحدون من قذف إنسانا نكح نكاحا فاسدا لا يحل مثله ، وهو عالم بالتحريم - هذا وهم يحدون من قذف امرأة مسلمة ظهر بها حمل ، وهم يقرون أنهم لا يحلفون ، ولا يقطعون أنه من زنى ، ومنهم من يرى الحد على من قال لآخر : زنت عينك ، أو زنت يدك - وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { أن اليدين تزنيان وزناهما البطش ، والعينين تزنيان وزناهما النظر ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه }

وأما الخمر : فإن المالكيين يقيمون الحد فيه بالنكهة - وكل من له معرفة يدري أن من أكل الكمثرى الشتوي ، وبعض أنواع التفاح : أن نكهة فمه ، ونكهة شارب الخمر : سواء - وأيضا فلعله ملأ فمه منها ولم يجرعها فبقيت النكهة ، أو لعله دلس عليه بها وهو لا يدري ، ثم يجلدون - هم والحنفيون في الخمر : ثمانين جلدة ، وجمهور الصحابة على أن الحد فيها أربعون ، فلم يدرءوا الأربعين الزائدة بالشبهة ، ولم يوجبها قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع

ويحدون ثمانين - كما قلنا - بفرية لم يفترها بعد ، فيقدمون له الحدود ، ولعله لا يقذف أحدا أبدا ، ولا فرق بين هذا وبين أن يقدموا له حد زنى لم يكن منه ، أو حد سرقة لم يكن منه

ويحدون - هم والشافعيون : الفاضل العالم المتأول إحلال النبيذ المسكر ، ويقبلون مع ذلك شهادته ، ويأخذون العلم عنه - ولا يحدون المتأول في الشغار ، والمتعة - وإن كان عالما بالتحريم - ولا في الخليطين - وإن كان حراما - كالخمرة

التالي السابق


الخدمات العلمية