صفحة جزء
2202 - مسألة : من صار مختارا إلى أرض الحرب ، مشاقا للمسلمين أمرتد هو بذلك أم لا ؟ ومن اعتضد بأهل الحرب على أهل الإسلام - وإن لم يفارق دار الإسلام - أمرتد هو بذلك أم لا ؟ قال أبو محمد : أنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن معاوية أنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن قدامة عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال : كان جرير يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 124 ] { إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة ، وإن مات مات كافرا ، فأبق غلام لجرير ، فأخذه فضرب عنقه } .

وبه - إلى أحمد بن شعيب أنا قتيبة أنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي إسحاق عن الشعبي عن جرير بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا أبق العبد إلى الشرك فقد حل دمه } .

ومن طريق مسلم أنا علي بن حجر السعدي أنا إسماعيل - يعني ابن علية - عن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي عن جرير أنه سمعه يقول : أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم - قال منصور : قد والله روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن أكره أن يروى عني هاهنا بالبصرة .

حدثنا عبد الله بن ربيع أنا محمد بن إسحاق أنا ابن الأعرابي أنا أبو داود أنا هناد بن السري أنا أبو معاوية - هو ابن أبي خازم الضرير - عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل ، وقال : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا : يا رسول الله لا تتراءى نارهما } .

قال أبو محمد رحمه الله : حديث الشعبي عن جرير الذي قدمنا هو من طريق منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي موقوف على جرير ، فلا وجه للاشتغال به .

وهو من طريق مغيرة عن الشعبي مسند ، إلا أن فيه : إن العبد بإقامته يكون كافرا ، فظاهره في المملوك ، لأن الحر لا يوصف بإباق - في المعهود - لكن رواية أبي إسحاق عن الشعبي في هذا الخبر بيان أنه في الحر والمملوك ، وبيان الإباق الذي يكفر به ، وهو إباقه إلى أرض الشرك ، والبعد واقع على كل أحد ، لأن كل أحد عبد الله تعالى : كما روينا من طريق مسلم أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أنا سفيان بن عيينة [ ص: 125 ] عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي } .

فقوله تعالى ( إذا قال العبد ) عني به الحر والمملوك - بلا شك - .

والإباق مطلق على الحر أيضا قال الله تعالى { إذ أبق إلى الفلك المشحون } فأخبر تعالى عن رسوله الحر يونس بن متى صلى الله عليه وسلم أنه أبق إذ خرج مغاضبا لأمر ربه تعالى .

وقد علمنا أن من خرج عن دار الإسلام إلى دار الحرب فقد أبق عن الله تعالى ، وعن إمام المسلمين وجماعتهم ، ويبين هذا حديثه صلى الله عليه وسلم { أنه بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين } وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر ، قال الله تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } .

قال أبو محمد رحمه الله : فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارا محاربا لمن يليه من المسلمين ، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها : من وجوب القتل عليه ، متى قدر عليه ، ومن إباحة ماله ، وانفساخ نكاحه ، وغير ذلك ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم .

وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه ، ولم يحارب المسلمين ، ولا أعانهم عليهم ، ولم يجد في المسلمين من يجيره ، فهذا لا شيء عليه ، لأنه مضطر مكره .

وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب : كان عازما على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم ، لأن الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه ، وهو كان الوالي بعد هشام فمن كان هكذا فهو معذور .

وكذلك : من سكن بأرض الهند ، والسند ، والصين ، والترك ، والسودان والروم ، من المسلمين ، فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر ، أو لقلة مال ، أو لضعف جسم ، أو لامتناع طريق ، فهو معذور . [ ص: 126 ]

فإن كان هناك محاربا للمسلمين معينا للكفار بخدمة ، أو كتابة : فهو كافر - وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها ، وهو كالذمي لهم ، وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم ، فما يبعد عن الكفر ، وما نرى له عذرا - ونسأل الله العافية .

وليس كذلك : من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية ; ومن جرى مجراهم ، لأن أرض مصر والقيروان ، وغيرهما ، فالإسلام هو الظاهر ، وولاتهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام ، بل إلى الإسلام ينتمون ، وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارا .

وأما من سكن في أرض القرامطة مختارا فكافر بلا شك ، لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام - ونعوذ بالله من ذلك .

وأما من سكن في بلد تظهر فيه بعض الأهواء المخرجة إلى الكفر ، فهو ليس بكافر ، لأن اسم الإسلام هو الظاهر هنالك على كل حال ، من التوحيد ، والإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والبراءة من كل دين غير الإسلام وإقامة الصلاة ، وصيام رمضان ، وسائر الشرائع التي هي الإسلام والإيمان - والحمد لله رب العالمين .

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين } يبين ما قلناه ، وأنه عليه السلام إنما عنى بذلك دار الحرب ، وإلا فقد استعمل - عليه السلام - عماله على خيبر ، وهم كلهم يهود .

وإذا كان أهل الذمة في مدائنهم لا يمازجهم غيرهم فلا يسمى الساكن فيهم - لإمارة عليهم ، أو لتجارة - بينهم : كافرا ، ولا مسيئا ، بل هو مسلم حسن ، ودارهم دار إسلام ، لا دار شرك ، لأن الدار إنما تنسب للغالب عليها ، والحاكم فيها ، والمالك لها .

ولو أن كافرا مجاهدا غلب على دار من دور الإسلام ، وأقر المسلمين بها على حالهم ، إلا أنه هو المالك لها ، المنفرد بنفسه في ضبطها ، وهو معلن بدين غير الإسلام لكفر بالبقاء معه كل من عاونه ، وأقام معه - وإن ادعى أنه مسلم - لما ذكرنا .

وأما من حملته الحمية من أهل الثغر من المسلمين فاستعان بالمشركين [ ص: 127 ] الحربيين ، وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين ، أو على أخذ أموالهم ، أو سبيهم ، فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كأتباع ، فهو هالك في غاية الفسوق ، ولا يكون بذلك كافرا ، لأنه لم يأت شيئا أوجب به عليه كفرا : قرآن أو إجماع ، وإن كان حكم الكفار جاريا عليه فهو بذلك كافر على ما ذكرنا ، فإن كانا متساويين لا يجري حكم أحدهما على الآخر فما نراه بذلك كافرا - والله أعلم - وإنما الكافر الذي برئ منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المقيم بين أظهر المشركين - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية