صفحة جزء
234 - مسألة :

وينقض التيمم أيضا وجود الماء ، سواء وجده في صلاة أو بعد أن صلى أو قبل أن يصلي ، فإن صلاته التي هو فيها تنتقض لانتقاض طهارته ويتوضأ أو يغتسل ، ثم يبتدئ الصلاة ، ولا قضاء عليه فيما قد صلى بالتيمم .

ولو وجد الماء إثر سلامه منها ، الخلاف في هذا في ثلاث مواضع : أحدها خلاف قديم في أن الماء إذا وجد لم يكن على المتيمم الوضوء به ولا الغسل ما لم يحدث منه ما يوجب الغسل أو الوضوء .

وروينا ذلك عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : إذا كنت جنبا في سفر فتمسح ثم إذا وجدت الماء فلا تغتسل من جنابة إن شئت ، قال عبد الحميد : فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال : ما يدريه ؟ إذا وجدت الماء فاغتسل .

وبإحداث الغسل والوضوء يقول جمهور المتأخرين .

وكان من حجة من لا يرى تجديد الوضوء والغسل أن قال : التيمم طهارة صحيحة فإذ ذلك كذلك فلا ينقضها إلا ما ينقض الطهارات ، وليس وجود الماء حدثا ، فوجود الماء لا ينقض طهارة التيمم .

قال علي : وكان هذا قولا صحيحا لولا ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله قال ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد - هو القطان - ثنا عوف - هو ابن أبي جميلة - ثنا أبو رجاء العطاردي عن عمران بن الحصين قال { كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فذكر الحديث وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس ، فلما انفتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته إذ هو برجل معتزل لم يصل مع القوم ، فقال : ما [ ص: 352 ] منعك يا فلان أن تصلي مع القوم ؟ قال : أصابتني جنابة ولا ماء ، قال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك } ثم ذكر في حديثه ذلك أمر الماء الذي أحدثه الله تعالى آية لنبيه عليه السلام قال : " وكان آخر ذلك أن { أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء ، وقال : اذهب فأفرغه عليك } .

حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا إبراهيم بن إسحاق النيسابوري ببغداد ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا أبي ثنا إسماعيل بن مسلم ثنا أبو رجاء العطاردي عن { عمران بن الحصين قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي القوم جنب ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فتيمم وصلى ، ثم وجدنا الماء بعد ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل ولا يعيد الصلاة } وقد ذكرنا حديث حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { وجعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } .

فصح بهذه الأحاديث أن الطهور بالتراب إنما هو ما لم يوجد الماء ، وهذا لفظ يقتضي أن لا يجوز التطهر بالتراب إلا إذا لم يوجد الماء ، ويقتضي أن لا يصح طهور بالتراب إلا أن لا نجد الماء إلا لمن أباح له ذلك نص آخر ، وإذا كان هذا فلا يجوز أن يخص بالقبول أحد المعنيين دون الآخر ، بل فرض العمل بهما معا ، وصحح هذا أيضا أمره عليه السلام المجنب بالتيمم بالصعيد والصلاة ، ثم أمره عند وجود الماء بالغسل ، فصح ما قلناه نصا والحمد لله .

والموضع الثاني : إن وجد الماء بعد الصلاة أيعيدها أم لا ؟ فقال سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والشعبي والحسن وأبو سلمة بن عبد الرحمن : إنه يعيد ما دام في الوقت .

رويناه من طريق معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن أبي سلمة ، وعن طريق حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن ، ومن طريق الحجاج بن المنهال عن سفيان الثوري عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن سعيد بن المسيب ، ومن طريق وكيع عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي ، ومن طريق سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن عطاء ، ومن طريق الحسن بن صالح عن العلاء بن المسيب عن طاوس .

وقال مالك : المسافر والمريض والخائف يتيممون في وسط الوقت ، فإن تيمموا وصلوا ثم وجدوا الماء في الوقت فإن المسافر لا يعيد ، وأما المريض والخائف فيعيدان الصلاة . [ ص: 353 ]

قال علي : أما قول مالك فظاهر الخطأ في تفريقه بين المريض والخائف وبين المسافر ، لأن المريض الذي لا يجد الماء مأمور بالتيمم والصلاة ، كما أمر به المسافر في آية واحدة ولا فرق .

وأما المريض والخائف المباح لهما التيمم لرفع الحرج والعسر فكذلك أيضا ، وكل من ذكرنا ، فلم يأت بالفرق بين أحد منهم في ذلك قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ولا رأي له وجه ، نعم ، ولا نعلم أحدا قال قبل مالك ، فسقط هذا القول جملة ولم يبق إلا قول من قال : يعيد الكل ، وقول من قال لا يعيد فنظرنا ، فوجدنا كل من ذكرنا مأمورا بالتيمم بنص القرآن ، فلما صلوا كانوا لا يخلون من أحد وجهين : إما أن يكونوا صلوا كما أمروا أو لم يصلوا كما أمروا .

فإن قالوا لم يصلوا كما أمروا قلنا لهم : فهم إذا منهيون عن التيمم والصلاة ابتداء لا بد من هذه وهذا لا يقوله أحد ، ولو قاله لكان مخطئا مخالفا للقرآن والسنن والإجماع ، فإذ قد سقط هذا القسم بيقين فلم يبق إلا القسم الثاني ، وهو أنهم قد صلوا كما أمروا ، فإذ قد صلوا كما أمروا فلا تحل لهم إعادة صلاة واحدة في يوم مرتين ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا بذلك عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا أبو كامل ثنا يزيد - يعني ابن زريع - ثنا حسين - هو المعلم عن عمرو بن شعيب عن سليمان بن يسار مولى ميمونة قال : { أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تصلوا صلاة في يوم مرتين } فسقط الأمر بالإعادة جملة .

والحمد لله رب العالمين .

والثالث من رأى الماء وهو في الصلاة ، فإن مالكا والشافعي وأحمد بن حنبل وأبا ثور وداود .

قالوا : إن رأى الماء وهو في الصلاة فليتماد على صلاته ولا يعيدها ولا تنتقض طهارته بذلك ، وإن رآه بعد الصلاة فليتوضأ وليغتسل ولا بد ، لا تجزيه صلاة مستأنفة إلا بذلك .

وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري والأوزاعي : سواء وجد الماء في الصلاة أو بعد الصلاة يقطع الصلاة ولا بد ، ويتوضأ أو يغتسل ويبتديها ، وأما إن رآه بعد الصلاة فقد تمت صلاته تلك ، ولا بد له من الطهارة بالماء لما يستأنف لا تجزيه صلاة يستأنفها إلا بذلك . [ ص: 354 ]

قال علي : فلما اختلفوا نظرنا في ذلك ، فوجدنا حجة من فرق بين وجود الماء في الصلاة ووجوده بعد الصلاة - إن قالوا قد دخل في الصلاة كما أمر ، فلا يجوز له أن ينقضها إلا بنص أو إجماع .

قال أبو محمد : لا نعلم لهم حجة غير هذه ، ولا متعلق لهم بها ، لأنه - وإن كان قد دخل في الصلاة كما أمره الله تعالى - فلا يخلو وجود الماء من أن يكون ينقض الطهارة ويعيده في حكم المحدث أو المجنب ، أو يكون لا ينقض الطهارة ولا يعيده في حكم المجنب أو المحدث .

فإن قالوا لا ينقض الطهارة ولا يعيده مجنبا ولا محدثا ، فهذا جواب أبي سليمان وأصحابنا ، قلنا فلا عليكم ، أنتم مقرون بأنه مع ذلك مفترض عليه الغسل أو الوضوء متى وجد الماء بلا خلاف منكم ، فمن قولهم نعم ، فقلنا لهم : فهو مأمور بذلك في حين وجوده في الصلاة وغير الصلاة بنص مذهبنا ومذهبكم في البدار إلى ما أمرنا به فإن قالوا : ليس مأمورا بذلك في الصلاة لشغله بها ، قلنا : هذا فرق لا دليل عليه ، ودعوى بلا برهان ، فإذ هو مأمور بذلك في الصلاة وغير الصلاة فقد صح إذ هو مأمور بذلك في الصلاة أن أمركم بالتمادي على ترك استعمال الماء خطأ ; لأنه على أصلكم لا تنتقض بذلك صلاته ، فكان اللازم على أصولكم أن يستعمل الماء ويبني على ما مضى من صلاته كما تقولون في المحدث ولا فرق ، وهم لا يقولون هذا فسقط قولهم .

وأما المالكيون والشافعيون فجوابهم أن وجود الماء ينقض الطهارة ويعيد التيمم مجنبا ومحدثا في غير الصلاة ، ولا ينقض الطهارة في الصلاة .

قال علي : فكان هذا قولا ظاهر الفساد ودعوى عارية عن الدليل ، وما جاء قط في قرآن ولا سنة ولا في قياس ولا في رأي له وجه أن شيئا يكون حدثا في غير الصلاة ولا يكون حدثا في الصلاة والدعوى لا يعجز عنها أحد ، وهي باطل ما لم يصححها برهان من قرآن أو سنة ، لا سيما قولهم : إن وجود المصلي الماء في حال صلاته لا ينقض صلاته ، فإذا سلم انتقضت طهارته بالوجود الذي كان في الصلاة ، وإن لم يتماد ذلك الوجود إلى بعد الصلاة ، فهذا أطرف ما يكون شيء ينقض الطهارة إذا عدم ولا ينقضها إذا وجد وهم قد أنكروا هذا بعينه على أبي حنيفة في قوله : إن القهقهة تنقض الوضوء في الصلاة ولا تنقضها في غير الصلاة .

[ ص: 355 ] قال علي : فإذ قد ظهر أيضا فساد هذا القول فقد ذكرنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن التراب طهور ما لم يوجد الماء } فصح أن لا طهارة تصح بتراب مع وجود الماء إلا لمن أجازه له النص من المريض الذي عليه من استعماله حرج ، فإذ ذلك كذلك فقد صح بطلان طهارة المتيمم إذا وجد الماء في صلاة كان أو في غير صلاة وصح قول سفيان ومن وافقه .

إلا أن أبا حنيفة تناقض ههنا في موضعين ، أحدهما أنه يرى لمن أحدث مغلوبا أن يتوضأ ويبني ، وهذا أحدث مغلوبا ، فكان الواجب على أصله أن يأمره بأن يتوضأ ويبني ، والثاني : أنه يرى السلام من الصلاة ليس فرضا : وأن من قعد في آخر صلاته مقدار التشهد فقد تمت صلاته ، وأنه إن أحدث عامدا أو ناسيا فقد صحت صلاته ولا إعادة عليه ، ثم رأى ههنا أنه وإن قعد في آخر صلاته مقدار التشهد ثم وجد الماء وإن لم يسلم فإن صلاته تلك قد بطلت وكذلك طهارته ، وعليه أن يتطهر ويعيدها أبدا ، وهذا تناقض في غاية القبح والبعد عن النصوص والقياس وسداد الرأي ، وما علمنا هذه التفاريق لأحد قبل أبي حنيفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية