صفحة جزء
2282 - مسألة : من سرق من ذي رحم محرمة ؟ قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس فيمن سرق من مال كل ذي رحم محرمة ؟ فقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأصحابهم ، وسفيان الثوري ، وإسحاق : إن سرق الأبوان من مال ابنهما ، أو بنتهما فلا قطع عليهما .

قال الشافعي : وكذلك الأجداد والجدات - كيف كانوا - لا قطع عليهم فيما سرقوه من مال من تليه ولادتهم .

وقال هؤلاء كلهم - حاشا مالكا ، وأبا ثور : لا قطع على الولد ، ولا على البنت فيما سرقاه من مال الوالدين ، أو الأجداد ، أو الجدات ، قال مالك ، وأبو ثور : عليهما القطع في ذلك .

وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : لا قطع على كل من سرق مالا لأحد من رحمه المحرمة .

وقال أصحابنا : القطع واجب على من سرق من ولده ، أو من والديه ، أو من جدته ، أو من جده ، أو من ذي رحم محرمة ، أو غير محرمة .

واتفقوا كلهم أنه يقطع فيما سرق من ذي رحمه غير المحرمة ، وفيما سرق من أمه من الرضاعة ، وابنته وابنه من الرضاعة ، وإخوته من الرضاعة ؟ [ ص: 335 ] قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا ، وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه - بعون الله تعالى - فنظرنا في قول من أسقط القطع عن الأبوين في مال الولد إذا سرقه ؟ فوجدناهم يحتجون بالثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله { أنت ومالك لأبيك } قالوا : فإنما أخذ ماله .

وقالوا : لو قتل ابنه لم يقتل به ، ولو زنى بأمة ابنه لم يحد لذلك ، فكذلك إذا سرق من ماله - قال : وفرض عليه أن يعفف أباه إذا احتاج إلى الناس فله في ماله حق بذلك .

وقالوا : له في ماله حق إذا احتاج إليه كلف الإنفاق عليه .

وقالوا : قال الله تعالى { وبالوالدين إحسانا } .

وقال تعالى { أن اشكر لي ولوالديك } . وقال تعالى { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } إلى قوله : { كما ربياني صغيرا } فليس قطع أيديهما فيما أخذ من ماله رحمة ؟ فهذا كل ما شغبوا به في كل ذلك - وكل ذلك لا حجة لهم في كل شيء منه ، بل هو عليهم ، كما نبين - إن شاء الله تعالى .

أما ما ذكروا من القرآن فحق ، إلا أنه لا يدل على ما ادعوا من إسقاط القطع فيما سرقوا من مال الولد ، ولا على إسقاط الجلد ، والرجم ، أو التغريب - إذا زنى بجارية الولد - ولا على إسقاط الحد - إذا قذف الولد - ولا على إسقاط المحاربة - إذا قطع الطريق على الولد . أما قوله تعالى { وبالوالدين إحسانا } فإن الله تعالى أوجب الإحسان إليهما ، كما أوجبه علينا أيضا لغيرنا .

قال الله تعالى { وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والجار ذي القربى } . [ ص: 336 ] فإن كانت مقدمة الآية حجة بوجوب الإحسان إلى الأبوين في إسقاط القطع عنهما - إذا سرقا من مال الولد - فهي حجة أيضا - ولا بد - في إسقاط القطع عن كل ذي قربى ، وعن ابن السبيل ، وعن الجار الجنب ، والصاحب بالجنب - إذا سرقوا من أموالنا - وهذا ما لا يقولونه ؟ فظهر تناقضهم ، وبطل احتجاجهم بالآية .

وأيضا - فالأمر بالإحسان ليس فيه منع من إقامة الحدود ، بل إقامتها عليهم من الإحسان إليهم ، بنص القرآن ، لقول الله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } وقد أمرنا بإقامة الحدود ، فإقامتها على من أقيمت عليه إحسان إليه ، وإنها تكفير وتطهير لمن أقيمت عليه .

وهم لا يختلفون في أن إماما لو كان له أب أو أم فسرقا ، فإن فرضا عليه إقامة القطع عليهما . فبطل تمويههم بالآية جملة وصح أنها حجة عليهم . وأما قوله تعالى { أن اشكر لي ولوالديك } فحق - ومن الشكر إقامة أمر الله تعالى عليهما ، وليس يقتضي شكرهما إسقاط ما أمر الله تعالى به فيهما والذي أمر بشكرهما - تبارك اسمه - هو الذي يقول { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } .

فصح أمر الله تعالى بالقيام عليهم بالقسط ، وبأداء الشهادة عليهم .

ومن القيام بالقسط إقامة الحدود عليهم - وبالله تعالى التوفيق .

وهكذا القول في قوله تعالى { ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما } الآية فليس في شيء من هذا إسقاط الحد عنهم في سرقة من مال الولد ، ولا في غير ذلك والله تعالى يقول { أشداء على الكفار رحماء بينهم } ولم يكن وجوب الرحمة لبعضنا مسقطا لإقامة الحدود بعضنا على بعض .

فبطل تعلقهم بالآيات المذكورات جملة . وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنت ومالك لأبيك } فقد أوضحنا ذلك : أن ذلك خبر منسوخ ، قد صح نسخه بآيات المواريث وغيرها . [ ص: 337 ] وأول من يحتج بهذا الخبر : فالحنفيون ، والمالكيون ، والشافعيون ; لأنهم لا يختلفون في أن الأب إذا أخذ من مال ابنه درهما - وهو غير محتاج إليه - فإنه يقضى عليه برده ، أحب أم كره - كما يقضى بذلك على الأجنبي ولا فرق ، ولو كان مال الولد للوالد لما قضي عليه برد ما أخذ منه .

فإذ قد صح أن هذا الخبر منسوخ ، وصح أن مال الولد للولد لا للوالد ، فقد صح أنه كمال الأجنبي ولا فرق ؟ فإن قالوا : إن للوالدين حقا في مال الولد ; لأنهما إذا احتاجا أجبر على أن ينفق عليهما ، وعلى أن يعف أباه ، فإذ له في ماله حق ، فلا يقطع فيما سرق منه : فهذا تمويه ظاهر ولم يخالفهم أحد في أن الوالدين إذا احتاجا فأخذا من مال ولدهما حاجتهما باختفاء أو بقهر أو كيف أخذاه - فلا شيء عليهما ، فإنما أخذا حقهما - وإنما الكلام فيهما إذا أخذا ما لا حاجة بهما إليه - إما سرا وإما جهرا - فاحتجاجهما بما ليس من مسألتهما تمويه .

وهم لا يختلفون فيمن كان له حق عند أحد ، فأخذ من ماله مقدار حقه ، فإنه لا يقطع ، ولا يقضى عليه برده - فلو كان وجوب الحق للأبوين في مال الولد إذا احتاجا إليه مسقطا للقطع عنهما إذا سرقا من ماله ما لا يحتاجان إليه ولا حق لهما فيه ، لوجب ضرورة أن يسقط القطع عن الغريم الذي له الحق في مال غريمه إذا سرق منه ما لا حق له فيه - وهذا لا يقولونه .

فبطل ما موهوا به من ذلك - والحمد لله رب العالمين . وأما قولهم : لو قتل ابنه لم يقتل به ، ولو قطع له عضوا أو كسره لم يقتص منه ، ولو قذف لم يحد له ، ولو زنى بأمته لم يحد ، فكذلك إذا سرق من ماله لم يحد ؟ فكلام باطل ، واحتجاج للخطأ بالخطأ .

بل لو قتل ابنه لقتل به ، ولو قطع له عضوا أو كسره لاقتص منه ، ولو قذفه لحد له ، ولو زنى بأمته لحد كما يحد الزاني - وقد بينا كل هذا في أبوابه في " كتاب الدماء ، والقصاص وحد الزنا وحد القذف " . قال أبو محمد رحمه الله : فإذ لم يبق لهم حجة أصلا ، فالواجب أن نرجع عند [ ص: 338 ] التنازع إلى ما افترض الله تعالى على المسلمين الرجوع إليه ، إذ يقول { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية ففعلنا : فوجدنا الله تعالى يقول : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } . ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجب القطع على من سرق ، وقال { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } ؟ .

فلم يخص الله تعالى في ذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ابنا من أجنبي ، ولا خص في الأموال مال أجنبي من مال ابن { وما كان ربك نسيا }

وبيقين ندري أن الله تعالى لو أراد تخصيص الأب من القطع لما أغفله ولا أهمله ، قال تعالى { تبيانا لكل شيء }

فصح أن القطع واجب على الأب ، والأم ، إذا سرقا من مال ابنهما ما لا حاجة بهما إليه .

ثم نظرنا في قول من احتج به من رأى إسقاط القطع عن الابن إذا سرق من مال أبويه ، وعن كل ذي رحم محرمة ؟ فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم } الآية إلى قوله تعالى : { أو صديقكم } . قال : فإباحة الله تعالى الأكل من بيوت هؤلاء يقتضي إباحة دخول منازلهم بغير إذنهم ، فإذا جاز لهم دخول منازلهم بغير إذنهم لم يكن مالهم محرزا عنهم ، ولا يجب القطع في السرقة من غير حرز .

وقالوا أيضا : فإن إباحة الأكل من أموالهم تمنعهم وجوب القطع لما لهم فيه من الحق ، كالشريك .

قالوا : وأيضا فإن على ذي الرحم المحرمة أن ينفق على ذي رحمه عند الحاجة ، فصار له بذلك حق في ماله بغير بدل ، فأشبه السارق من بيت المال . [ ص: 339 ] قالوا : ولما كان محتاجا إلى ما ينفقه عليه لإحياء نفسه كان ذلك لازما في جميع أعضائه ، فلذلك يسقط القطع عن اليد ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فهذا كل ما موهوا به ، ولا حجة لهم في شيء منه أصلا ، على ما نبين إن شاء الله تعالى ، فأما الآية فحق ، ولا دليل فيها على ما ذكروا ، بل هي حجة عليهم ، وقد كذبوا فيها أيضا : أما كونها لا دليل فيها على ما ادعوه ، فإنه ليس فيها إسقاط القطع على من سرق من هؤلاء - لا بنص ولا بدليل - وإنما فيها إباحة الأكل لا إباحة الأخذ بلا خلاف من أحد من الأمة ؟ فإذا قالوا : قسنا الأخذ على الأكل ؟ قلنا لهم : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ; لأن القياس عند القائلين به قياس الشيء على نظيره في العلة أو في شبه بوجه ما ، ولا يجوز عند أحد من الأمة - لا مجيز قياس ولا مانع - قياس الضد على ضده ، ولا مضادة أكثر ومن التحريم والتحليل ، وأنتم مجمعون - معنا ومع الناس - على أن الأخذ لعروض الأخ ، والأخت ، والعم ، والعمة ، والخال ، والخالة ، والأب ، والأم ، والصديق ، من بيوتهم ، ونقل ما فيها حرام ، وأن الأكل حلال ، فكيف استحللتم قياس حكم الحرام الممنوع على حكم الحلال المباح ؟ وأما قولهم في الآية ، وكذبهم فيها ، قول هذا الجاهل المقدم " إن إباحة الله تعالى الأكل من بيوت هؤلاء يقتضي إباحة دخول منازلهم بغير إذنهم " . فليت شعري أين وجدوا هذا في هذه الآية أو في غيرها ؟ فيدخل الصديق منزل صديقه بغير إذنه ؟ هذا عجب من العجب ، أما سمعوا قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم } إلى قوله تعالى { فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم } .

فنص الله تعالى على أنه لا يدخل بالغ أصلا على أحد إلا بإذن - ودخل في ذلك : الأب ، والابن ، وغيرهما ، حاش ما ملكت أيماننا ، والأطفال ، فإنهم لا يستأذنون إلا في هذه الأوقات الثلاث فقط - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية