صفحة جزء
وقوله تعالى { ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } .

فصح أن الكفر يكون كلاما .

وقد حكم الله تعالى بالكفر على إبليس - وهو عالم بأن الله خلقه من نار وخلق آدم من طين - وأمره بالسجود لآدم وكرمه عليه - وسأل الله تعالى النظرة إلى يوم يبعثون . [ ص: 436 ] ثم يقال لهم : إذ ليس شتم الله تعالى كفرا عندكم ، فمن أين قلتم : إنه دليل على الكفر ؟ فإن قالوا : لأنه محكوم على قائله بحكم الكفر ؟ قيل لهم : نعم ، محكوم عليه بنفس قوله ، لا بمغيب ضميره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى فإنما حكم له بالكفر بقوله فقط ، فقوله هو الكفر ، ومن قطع على أنه في ضميره ، وقد أخبر الله تعالى عن قوم { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } فكانوا بذلك كفارا ، كاليهود الذين عرفوا صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يعرفون أبناءهم وهم مع ذلك كفار بالله تعالى قطعا بيقين ، إذ أعلنوا كلمة الكفر .

قال أبو محمد رحمه الله : فإذ قد سقط هذا القول فالواجب أن ننظر فيما احتجت به الطائفة القائلة إن من سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو نبيا من الأنبياء ، أو ملكا من الملائكة - عليهم السلام - فهو بذلك القول كافر - سواء اعتقده بقلبه أو اعتقد الإيمان بقلبه : فوجدناهم يذكرون قول الله تعالى { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } .

وقال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } الآية . وقوله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } قال فقضى الله عز وجل وقسم وحكم : أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما شجر ثم لا يجد في نفسه حرجا في شيء مما قضى به ويسلم تسليما .

قالوا : وبضرورة الحس والمشاهدة ندري أن من سب الله تعالى أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو ملكا من الملائكة ، أو نبيا من الأنبياء - على جميعهم السلام - أو شيئا من الشريعة ، أو استخف بشيء من ذلك كله ، فلم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى به [ ص: 437 ] من تعظيم الله تعالى ، وإكرام الملائكة والنبيين ، وتعظيم الشريعة التي هي شعائر الله تعالى . فصح أنه لم يؤمن فقد كفر إذ ليس إلا مؤمن أو كافر .

قالوا : وقد نص الله تعالى بإحباط عمل من رفع صوته على صوت النبي صلى الله عليه وسلم وإحباط العمل لا يكون إلا بالكفر فقط . ورفع الصوت على صوت النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيه : الاستخفاف به عليه السلام ، والسب له ، والمعارضة من حاضر وغائب .

قالوا : وكان قوله تعالى في المستهزئين بالله وبآياته ورسوله : أنهم كفروا بذلك بعد إيمانهم ، فارتفع الإشكال وصح يقينا أن كل من استهزأ بشيء من آيات الله وبرسول من رسله فإنه كافر بذلك مرتد .

وقد علمنا - أن الملائكة كلهم رسل الله تعالى ، قال الله تعالى { جاعل الملائكة رسلا } وكذلك علمنا بضرورة المشاهدة : أن كل ساب وشاتم فمستخف بالمشتوم مستهزئ به ، فالاستخفاف والاستهزاء شيء واحد ؟ قال أبو محمد رحمه الله : ووجدنا الله تعالى قد جعل إبليس باستخفافه بآدم عليه السلام كافرا ; لأنه إذ قال { أنا خير منه } فحينئذ أمره تعالى بالخروج من الجنة ودحره ، وسماه كافرا بقوله { وكان من الكافرين } .

وحدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أبو محمد حبيب البخاري - هو صاحب أبي ثور ثقة مشهور - نا محمد بن سهل سمعت علي بن المديني يقول : " دخلت على أمير المؤمنين فقال لي : أتعرف حديثا مسندا فيمن سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقتل ؟ قلت : نعم ، فذكرت له حديث عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل عن عروة بن محمد عن " رجل " من بلقين قال { كان رجل يشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من يكفيني عدوا لي ؟ فقال خالد بن الوليد : أنا فبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه فقتله ، فقال له أمير المؤمنين : ليس هذا مسندا ، هو عن رجل ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين بهذا يعرف هذا الرجل وهو اسمه ، قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه ، وهو مشهور معروف ؟ قال : فأمر لي بألف دينار ؟ } [ ص: 438 ] قال أبو محمد رحمه الله : هذا حديث مسند صحيح ، وقد رواه علي بن المديني عن عبد الرزاق كما ذكره ، وهذا رجل من الصحابة معروف اسمه الذي سماه به أهله " رجل " من بلقين .

فصح بهذا كفر من سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه عدو لله تعالى ، وهو عليه السلام لا يعادي مسلما قال تعالى { المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } .

فصح بما ذكرنا أن كل من سب الله تعالى ، أو استهزأ به ، أو سب ملكا من الملائكة أو استهزأ به ، أو سب نبيا من الأنبياء ، أو استهزأ به ، أو سب آية من آيات الله تعالى ، أو استهزأ بها ، والشرائع كلها ، والقرآن من آيات الله تعالى فهو بذلك كافر مرتد ، له حكم المرتد ، وبهذا نقول - وبالله تعالى التوفيق .

قال أبو محمد رحمه الله : ويبين هذا ما روينا من طريق مسلم ني زهير بن حرب نا عفان بن مسلم نا حماد بن سلمة نا ثابت البناني عن أنس { أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي : اذهب فاضرب عنقه ، فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها ، فقال له علي : اخرج ، فناوله يده ، فأخرجه ، فإذا هو مجبوب - ليس له ذكر - فكف علي عنه ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إنه لمجبوب ، ماله ذكر ؟ } قال أبو محمد رحمه الله : هذا خبر صحيح ، وفيه من آذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجب قتله ، وإن كان لو فعل ذلك برجل من المسلمين لم يجب بذلك قتله ؟ فإن قال قائل : كيف يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله دون أن يتحقق عنده ذلك الأمر ، لا بوحي ، ولا بعلم صحيح ، ولا ببينة ، ولا بإقرار ؟ وكيف يأمر - عليه السلام - بقتله في قصة بظن قد ظهر كذبه بعد ذلك وبطلانه ؟ وكيف يأمر - عليه السلام - بقتل امرئ قد أظهر الله تعالى براءته بعد ذلك بيقين لا شك فيه ؟ وكيف يأمر - عليه السلام - بقتله ولا يأمر بقتلها ، والأمر بينه وبينها مشترك ؟ [ ص: 439 ] قال أبو محمد رحمه الله : وهذه سؤالات لا يسألها إلا كافر أو إنسان جاهل يريد معرفة المخرج من كل هذه الاعتراضات المذكورة ؟ قال أبو محمد رحمه الله : الوجه في هذه السؤالات بين واضح لا خفاء به والحمد لله رب العالمين ، ومعاذ الله أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل أحد بظن بغير إقرار ، أو بينة ، أو علم أو مشاهدة ، أو وحي ، أو أن يأمر بقتله دونها ، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم يقينا أنه بريء ، وأن القول كذب فأراد - عليه السلام - أن يوقف على ذلك مشاهدة فأمر بقتله لو فعل ذلك الذي قيل عنه ، فكان هذا حكما صحيحا فيمن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علم - عليه السلام - أن القتل لا ينفذ عليه لما يظهر الله تعالى من براءته ، وكان - عليه السلام - في ذلك ، كما أخبر به عن أخيه سليمان عليه السلام ، وقد روينا من طريق البخاري نا أبو اليمان - هو الحكم بن نافع - نا شعيب - هو ابن أبي حمزة - نا أبو الزناد قال : إن عبد الرحمن الأعرج حدثه أنه سمع { أبا هريرة يقول : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مثلي ومثل الناس - فذكر كلاما - وفيه أنه - عليه السلام - قال : وكانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت صاحبتها ، إنما ذهب بابنك ، وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ، فتحاكما إلى داود عليه السلام ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان عليه السلام فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما ، فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله ، هو ابنها ، فقضى به للصغرى - قال أبو هريرة : والله إن سمعت بالسكين إلا يومئذ وما كنا نقول إلا المدية ؟ } قال أبو محمد رحمه الله : فبيقين ندري أن سليمان عليه السلام لم يرد قط شق الصبي بينهما ، وإنما أراد امتحانهما بذلك ، وبالوحي - فعل هذا بلا شك - وكان حكم داود عليه السلام للكبرى على ظاهر الأمر ; لأنه كان في يدها ، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أراد قط إنفاذ قتل ذلك " المجبوب " لكن أراد امتحان علي في إنفاذ أمره ، وأراد إظهار براءة المتهم ، وكذب التهمة عيانا - وهكذا لم يرد الله تعالى إنفاذ ذبح إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم إذا أمر أباه بذبحه ، لكن أراد الله تعالى إظهار تنفيذه لأمره - فهذا وجه الأخبار - والحمد لله رب العالمين .

فصح بهذا أن كل من آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو كافر مرتد يقتل ، ولا بد - وبالله تعالى التوفيق ؟ [ ص: 440 ] قال أبو محمد رحمه الله : نا أحمد بن إسماعيل بن دليم الحضرمي نا محمد بن أحمد بن الخلاص نا محمد بن القاسم بن شعبان نا الحسن بن علي الهاشمي ثني محمد بن سليمان الباغندي نا هشام بن عمار قال : سمعت مالك بن أنس يقول : من سب أبا بكر ، وعمر جلد ، ومن سب عائشة قتل ، قيل له : لم يقتل في عائشة ؟ قال : لأن الله تعالى يقول في عائشة رضي الله عنها { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين } .

قال مالك : فمن رماها فقد خالف القرآن ، ومن خالف القرآن قتل ؟ قال أبو محمد رحمه الله : قول مالك هاهنا صحيح ، وهي ردة تامة ، وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها .

وكذلك القول سائر أمهات المؤمنين ، ولا فرق . لأن الله تعالى يقول { الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون } فكلهن مبرآت من قول إفك - والحمد لله رب العالمين .

قال أبو محمد رحمه الله : وأما الذمي يسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن أصحابنا ، ومالكا ، وأصحابه ، قالوا : يقتل ولا بد . وهو قول الليث بن سعد .

وقال الشافعي : يجب أن يشترط عليهم : أن لا يذكر أحد منهم كتاب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بما لا ينبغي ، أو زنى بمسلمة أو تزوجها ، فإن فعل شيئا من ذلك ، أو قطع الطريق على مسلم ، أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين ، أو آوى عينا لهم ، فقد نقض عهده ، وحل دمه ، وبرئت منه ذمة الله تعالى ، وذمة المسلمين - فتأول عليه قوم : أنه إن لم يشترط هذا عليهم لم يستحل دمهم بذلك ؟ قال علي رحمه الله : وهذا خطأ ممن تأول ذلك عليه ; لأنه لا يختلف عنه ، ولا عن غيره في الذمي يقطع الطريق على المسلمين أنه قد حل بذلك دمه - تقدم إليهم بذلك وشرط لهم أو لم يشترط ذلك لهم . وروي عن بعض المالكيين : أن الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ ص: 441 ] بغير ما به كفر يقتل ، فاستدل بعض الناس : أنه لا يقتل إذا سبه بتكذيب .

وقال سفيان ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : إن سب الذمي الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأي شيء سبه ، فإنه لا يقتل ، لكن ينهى عن ذلك - وقال بعضهم : يعزر .

وقد روي عن ابن عمر أنه يقتل ولا بد .

واحتج الحنفيون لضلالهم وإفكهم بما ناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا محمد بن مقاتل أنا عبد الله بن المبارك أنا شعبة عن هشام بن زيد قال : سمعت أنس بن مالك يقول : { مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : السام عليك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليك ، فقال عليه السلام : أتدرون ما يقول ؟ قال : السام عليك ؟ قالوا : يا رسول الله ، ألا نقتله ؟ قال : لا ، إذا سلم عليكم أهل الكتاب ، فقولوا : وعليكم } . ومن طريق البخاري نا أبو بغيم عن ابن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت { استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : السام عليك ، فقلت : بلى ، وعليكم السام واللعنة ، فقال : يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ، قلت : أولم تسمع ما قالوا ؟ قال : قلت : وعليكم } .

حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا يحيى بن حبيب بن عدي نا خالد بن الحارث نا شعبة عن هشام بن زيد بن أنس عن أنس بن مالك { أن امرأة يهودية أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألها عن ذلك ، فقالت : أردت لأقتلك ، قال : ما كان الله ليسلطك على ذلك - أو قال علي - فقالوا : ألا تقتلها ؟ فقال : لا } .

قال أبو محمد : فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سمع قول اليهود له السام عليك - وهذا قول لو قاله مسلم لكان كافرا بذلك ، - وقد سمت اليهودية طعاما لتقتله - ولو أن مسلما يفعل ذلك لكان بذلك كافرا ، فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، [ ص: 442 ] ولا قتلها ، وحديث لبيد بن الأعصم إذ سحره صلى الله عليه وسلم فلم يقتله ؟ قال أبو محمد : ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلا ، وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه على ما نبين - إن شاء الله تعالى - أما الأحاديث التي فيها قول اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم { السام عليك } فليس بشيء ; لأن السام إنما هو الموت : كما روينا من طريق البخاري نا يحيى بن بكير نا الليث هو ابن سعد - عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب أخبره أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وسعيد بن المسيب " أن أبا هريرة أخبرهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول { في الحبة السوداء : شفاء من كل داء إلا السام ؟ } قال ابن شهاب : والسام الموت ، فمعنى السام عليك : الموت عليك ، وهذا كلام حق ، وإن كان فيه جفاء ; لأن الله تعالى يقول { إنك ميت وإنهم ميتون } . وقال تعالى { كل نفس ذائقة الموت } وإنما يحصل بالجفاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكفر من المسلم ، وبكفره يحل دمه ، والذمي كافر ، ولم يقل : إنه لجفائه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون كافرا بجفائه ، بل كان كافرا ، وهو كافر ، ولا يحل دمه بكفره ، إذا صحت نيته ، لكن بمعنى آخر غير الكفر .

وهكذا القول في لبيد بن الأعصم الزرقي اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي سم اليهودية لطعامه صلى الله عليه وآله وسلم ولا فرق ، إنما يحصل من ذلك الكفر لمن فعله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين ، والذميون كفار قبل ذلك ، ومعه ، وليس بنفس كفرهم حلت دماؤهم في ذلك إذا تذمموا ، فالمسلم يقتل بكفره إذا أحدث كفرا بعد إسلامه ، والذمي لا يقتل ، وإن أحدث في كل حين كفرا حادثا غير كفره بالأمس ، إذا كان من نوع الكفر الذي تذمم عليه - فنظرنا في المعنى الذي وجب به القتل على الذمي إذا سب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أو استخف بشيء من دين الإسلام - فوجدناه إنما هو نقضه الذمة ; لأنه إنما تذمم ، وحقن دمه بالجزية على الصغار ، قال الله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله } الآية إلى قوله : { وهم صاغرون } [ ص: 443 ] وقال تعالى { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } . فكان هاتان الآيتان نصا جليا لا يحتمل تأويلا في بيان ما قلنا من أن أهل الكتاب يقاتلون ويقتلون حتى يعطوا الجزية ، وعلى أنهم إذا عوهدوا وتم عهدهم ، وطعنوا في ديننا فقد نقضوا عهدهم ، ونكثوا أيمانهم ، وعاد حكم قتالهم كما كان .

وبضرورة الحس والمشاهدة ندري أنهم إن أعلنوا سب الله تعالى أو سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو شيء من دين الإسلام ، أو مسلم من عرض الناس ، فقد فارقوا الصغار ، بل قد أصغرونا ، وأذلونا ، وطعنوا في ديننا ، فنكثوا بذلك عهدهم ، ونقضوا ذمتهم - وإذا نقضوا ذمتهم فقد حلت دماؤهم ، وسبيهم ، وأموالهم بلا شك ؟ قال أبو محمد رحمه الله : وسم اليهودية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يوم خيبر بلا شك وهو قبل نزول " براءة " بثلاثة أعوام .

وكذلك نقول في قول أولئك اليهود : السام عليك للنبي صلى الله عليه وسلم . وفي سحر لبيد بن الأعصم إياه وأن هذا كله كان قبل أن يؤمر بأن لا يثبت عهد الذمي إلا على الصغار ، وأن كل ذلك إذ كانت المهادنة جائزة لهم ; لأن المعنى في حديث " السام ، والسحر " هو معنى حديث سم الشاة سواء سواء ، وحديث سم الشاة منسوخ بلا شك بما في " سورة براءة " من أن لا يقروا إلا على الصغار فحديث " السام ، والسحر " بلا شك منسوخان ، بل اليقين قد صح بذلك ; لأن معناهما منسوخ ولا يحل العمل بالمنسوخ ، ولا يجوز ألبتة أن يكونا بعد نزول " براءة " ; لأنه من المحال أن ينسخ الله تعالى شيئا بيقين ، ثم ينسخ الناسخ ويعيد حكم المنسوخ ولا يصحبه من البيان ما يرفع الشك ، ويرفع الظن ، ويبطل الإشكال - هذا أمر قد أمناه - ولله الحمد .

فإن قال قائل : كيف تقولون هذا وأنتم تقولون : إن من سم اليوم طعاما لأحد من المسلمين فلا قتل عليه وإن من سحر مسلما فلا قتل عليه ، وإن اليهود يقولون لنا اليوم : السام عليكم ، ولا قتل عليهم فما نراكم تحكمون إلا بما ذكرتم أنه منسوخ ؟ فجوابنا - وبالله تعالى التوفيق - أننا لم نقل إن هذه الأحاديث نسخ منها إلا ما [ ص: 444 ] يوجبه حكم خطابهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ، وحكم سم طعامه خاصة ، وحكم قصده بالسحر خاصة ، فهذا هو الذي نسخ وحده فقط ولا مزيد ; لأن الغرض تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره ، وأن لا يجعل دعاؤه - عليه السلام - كدعاء بعضنا بعضا باق أبدا - على المسلم والكافر . فقد علمنا أن قوله الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " اعدل يا محمد " كان ردة صحيحة ; لأنه لم يوقره ولا عظمه كما أمر ، ورفع صوته عليه فحبط عمله .

ولو أن مسلما أو ذميا يقول لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فمن دونه : اعدل يا أبا بكر لما كان فيه شيء من النكرة ، ولا من الكراهة ، واليهود إن قالوا لنا : السام عليكم ، أو قالوا : الموت عليكم ، لقلنا لهم : صدقتم ولا خفاء في هذا .

وكذلك لو خاصمونا في حق يدعونه فرفعوا أصواتهم علينا ، ما كان في ذلك نكرة ، وهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام وغيرهم كفر ، ونقض للذمة .

وكذلك إذا سحرنا ساحر مسلم أو كافر ، فلم يزد على أن كادنا كيدا لا يفلح معه ، قال الله تعالى { إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى } وليس بالكيد تنتقض الذمة ; لأنهم لم يفارقوا به الصغار ، وهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قصد به كفر ونقض للذمة ; لأنه خلاف التعظيم المفترض له خاصة دون غيره .

وكذلك سم الطعام لنا ليس فيه إلا إفساد مال من أموالنا إن كان لنا ، أو كيد من فاعله إن كان الطعام له ، وليس بإفساد المال والكيد تنتقض الذمة ولا يكفر بذلك أحد إلا من عامل بذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ، فهو كفر ونقض للذمة ; لأنه خلاف التعظيم المفترض له علينا وعلى جميع أهل الأرض جنها وإنسها .

وكذلك لو أن مسلما أو ذميا لم يسلم لحكم حكم به أبو بكر - رضي الله عنه - فمن دونه فاجتهاده فيما لا نص فيه ولا إجماع ، ولا رضى بذلك القول لم يكن عليه في ذلك حرج ولا إثم ، ولو أنهما لم يسلما لحكم حكم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكان ذلك كفرا من المسلمين ، بنص القرآن ، وإخراجا لهم عن الإيمان ، ولكان ذلك نقضا للذمة من الذمي ; لأنه خروج عن الصغار ، وطعن في الدين ، وهذا بين - ولله الحمد كثيرا .

السابق


الخدمات العلمية