صفحة جزء
قال علي : أما من قال بتحديد ما يقصر فيه بالسفر ، من أفق إلى أفق ، وحيث يحمل الزاد والمزاد وفي ستة وتسعين ميلا ، وفي اثنين وثمانين ميلا ، وفي اثنين وسبعين ميلا ، وفي ثلاثة وستين ميلا ، أو في أحد وستين ميلا ، أو ثمانية وأربعين ميلا ، أو خمسة وأربعين ميلا ، أو أربعين ميلا ، أو ستة وثلاثين ميلا : فما لهم حجة أصلا ولا متعلق ، لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا سقيمة ، ولا من إجماع ولا من قياس ، ولا رأي سديد ، ولا من قول صاحب لا مخالف له منهم - وما كان هكذا فلا وجه للاشتغال به ثم نسأل من حد ما فيه القصر ، والفطر بشيء من ذلك عن أي ميل هو ؟ ثم نحطه من الميل عقدا أو فترا أو شبرا ، ولا نزال نحطه شيئا فشيئا فلا بد له من التحكم في الدين ، أو ترك ما هو عليه ؟ فسقطت هذه الأقوال جملة والحمد لله رب العالمين ؟

[ ص: 202 ] ولا متعلق لهم بابن عباس ، وابن عمر لوجوه - : أحدها : أنه قد خالفهم غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم .

والثاني : أنه ليس التحديد بالأميال في ذلك من قولهما ، وإنما هو من قول من دونهما .

والثالث : أنه قد اختلف عنهما أشد الاختلاف كما أوردنا .

فروى حماد بن سلمة عن أيوب السختياني ، وحميد كلاهما عن نافع ، ووافقهما ابن جريج عن نافع : أن ابن عمر كان لا يقصر في أقل من ستة وتسعين ميلا وروى معمر عن أيوب عن نافع : أن ابن عمر كان يقصر في أربعة برد ، ولم يذكر أنه منع من القصر في أقل ؟ وروى هشام بن الغاز عن نافع : أن ابن عمر قال : لا يقصر الصلاة إلا في اليوم التام

وروى مالك عن نافع عنه : أنه لا يقصر في البريد .

وقال مالك : ذات النصب ، وريم : كلتاهما من المدينة على نحو أربعة برد ، وروى عنه علي بن ربيعة الوالبي : لا قصر في أقل من اثنين وسبعين ميلا .

وروى عنه ابنه سالم بن عبد الله - وهو أجل من نافع - : أنه قصر إلى ثلاثين ميلا .

وروى عنه ابن أخيه حفص بن عاصم - وهو أجل من نافع وأعلم به : أنه قصر إلى ثمانية عشر ميلا ؟ وروى عنه شرحبيل بن السمط ، ومحمد بن زيد بن خلدة ، ومحارب بن دثار ، وجبلة بن سحيم - وكلهم أئمة - : القصر في أربعة أميال ، وفي ثلاثة أميال ، وفي ميل واحد ، وفي سفر ساعة .

وأقصى ما يكون سفر الساعة من ميلين إلى ثلاثة .

وأما ابن عباس فروى عنه عطاء : القصر إلى عسفان ، وهي اثنان وثلاثون ميلا ، وإذا وردت على أهل أو ماشية فأتم ، ولا تقصر إلى عرفة ولا منى . [ ص: 203 ]

وروى عنه مجاهد : لا قصر في يوم إلى العتمة ، لكن فيما زاد على ذلك وروى عنه أبو جمرة الضبعي : لا قصر إلا في يوم متاح . وقد خالفه مالك في أمره عطاء : أن لا يقصر إلى منى ولا إلى عرفة ، وعطاء مكي ، فمن الباطل أن يكون بعض قوله حجة وجمهور قوله ليس حجة وخالفه أيضا مالك ، والشافعي في قوله : إذا قدمت على أهل أو ماشية فأتم الصلاة .

فحصل قول مالك ، والشافعي : خارجا عن أن يقطع بأنه تحديد أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا وجد بينا عن أحد من التابعين أنه حد ما فيه القصر بذلك .

ولعل التحديد - الذي في حديث ابن عباس - إنما هو من دون عطاء ، وهو هشام بن ربيعة .

وليس في حديث نافع عن ابن عمر : أنه منع القصر في أقل من أربعة برد فسقطت أقوال من حد ذلك بالأميال المذكورة سقوطا متيقنا - وبالله تعالى التوفيق .

ثم رجعنا إلى قول من حد بثلاثة أيام ، أو يومين ، أو يوم وشيء زائد ، أو يوم تام ، أو يوم وليلة - : فلم نجد لمن حد ذلك بيوم وزيادة شيء متعلقا أصلا ، فسقط هذا القول فنظرنا في الأقوال الباقية فلم نجد لهم متعلقا إلا بالحديث الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وابن عمر في { نهي المرأة عن السفر - : في بعضها ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم وفي بعضها ليلتين إلا مع ذي محرم وفي بعضها يوما وليلة إلا مع ذي محرم وفي بعضها يوما إلا مع ذي محرم } " . [ ص: 204 ]

فتعلقت كل طائفة مما ذكرنا ؟ فأما من تعلق بليلتين ، أو بيوم وليلة : فلا متعلق لهم أصلا ; لأنه قد جاء ذلك الحديث بيوم ، وجاء بثلاثة أيام ، فلا معنى للتعلق باليومين ، ولا باليوم والليلة ، دون هذين العددين الآخرين أصلا .

وإنما يمكن أن يشغب هاهنا بالتعلق بالأكثر مما ذكر في ذلك الحديث ، أو بالأقل مما ذكر فيه - وأما التعلق بعدد قد جاء النص بأقل منه ، أو بأكثر منه ، فلا وجه له أصلا ، فسقط هذان القولان أيضا ؟ فنظرنا في قول من تعلق بالثلاث ، أو باليوم : فكان من شغب من تعلق باليوم أن قال : هو أقل ما ذكر في ذلك الحديث ، فكان ذلك هو حد السفر الذي ما دونه بخلافه ، [ ص: 205 ] فوجب أن يكون ذلك حدا لما يقصر فيه قالوا : وكان من أخذ بحدنا قد استعمل حكم الليلتين واليوم والليلة والثلاث ، ولم يسقط من حكم ما ذكر في ذلك الحديث شيئا : وهذا أولى ممن أسقط أكثر ما ذكر في ذلك الحديث ؟

قال علي : فقلنا لهم : تأتوا بشيء فإن كنتم إنما تعلقتم باليوم ; لأنه أقل ما ذكر في الحديث - : فليس كما قلتم ، وقد جهلتم أو تعمدتم فإن هذا الحديث رواه بشر بن المفضل عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوما وليلة إلا ومعها ذو محرم منها } " .

ورواه مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر يوما وليلة إلا مع ذي محرم منها } " .

ورواه الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه : أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يحل لامرأة مسلمة تسافر ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها } .

ورواه ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم } .

ورواه جرير بن حازم عن سهيل بن أبي صالح عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث وفيه - : " أن تسافر بريدا " وسعيد أدرك أبا هريرة وسمع منه ؟ فاختلف الرواة عن أبي هريرة ، ثم عن سعيد بن أبي سعيد ، وعن سهيل بن أبي صالح كما أوردنا .

وروى هذا الحديث ابن عباس فلم يضطرب عليه ولا اختلف عنه ؟ كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا [ ص: 206 ] أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب كلاهما عن سفيان بن عيينة ثنا عمرو بن دينار عن أبي معبد ، هو مولى ابن عباس - قال : سمعت ابن عباس يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم } .

فعم ابن عباس في روايته كل سفر دون اليوم ودون البريد وأكثر منهما ، وكل سفر قل أو طال فهو عام لما في سائر الأحاديث وكل ما في سائر الأحاديث فهو بعض ما في حديث ابن عباس هذا فهو المحتوي على جميعها ، والجامع لها كلها ، ولا ينبغي أن يتعدى ما فيه إلى غيره ، فسقط قول من تعلق باليوم أيضا - وبالله تعالى التوفيق .

ثم نظرنا في قول من حد ذلك بالثلاث فوجدناهم يتعلقون بذكر الثلاث في هذا الحديث وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله في المسح " { للمسافر ثلاثا بلياليهن ، وللمقيم يوما وليلة } لم نجدهم موهوا بغير هذا أصلا

قال علي : وقالوا : من تعلق بالثلاث كان على يقين من الصواب ، لأنه إن كان عليه السلام ذكر نهيه عن سفرها ثلاثا قبل نهيه عن سفرها يوما أو أقل من يوم - : فالخبر الذي ذكر فيه اليوم هو الواجب أن يعمل به ، ويبقى نهيه عن سفرها ثلاثا غير منسوخ ، بل ثابت كما كان .

وإن كان ذكر نهيه عن سفرها ثلاثا بعد نهيه عن سفرها يوما أو أقل من يوم - : فنهيه عن السفر ثلاثا هو الناسخ لنهيه إياها عن السفر أقل من ثلاث ؟ قالوا : فنحن على يقين من صحة حكم النهي عن السفر ثلاثا إلا مع ذي محرم وعلى شك من صحة النهي لها عما دون الثلاث ، فلا يجوز أن يترك اليقين للشك قال علي : وهذا تمويه فاسد من وجوه ثلاثة - : [ ص: 207 ] أحدها : أنه قد جاء النهي أن تسافر أكثر من ثلاث .

روينا ذلك من طرق كثيرة في غاية الصحة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تسافر المرأة فوق ثلاث إلا ومعها ذو محرم } .

التالي السابق


الخدمات العلمية