صفحة جزء
730 - مسألة : ولا يجزئ صوم التطوع إلا بنية من الليل ، ولا صوم قضاء رمضان ، أو الكفارات إلا كذلك ، لأن النص ورد بأن لا صوم لمن لم يبيته من الليل كما قدمنا ، ولم يخص النص من ذلك إلا ما كان فرضا متعينا في وقت بعينه ، وبقي سائر ذلك على النص العام .

وقولنا بهذا في التطوع ، وقضاء رمضان ، والكفارات : هو قول مالك ; وأبي سليمان وغيرهما .

فإن قال قائل : فكيف استجزتم خلاف الثابت عن رسول الله الذي رويتموه من طريق طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن مجاهد ، وعائشة بنت طلحة كلاهما عن أم المؤمنين عائشة : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : هل عندكم من شيء ؟ وقال مرة : من غداء ؟ قلنا : لا ، قال : فإني إذن صائم } . وقال لها مرة أخرى : { هل عندكم من شيء ؟ قلنا : نعم ، أهدي لنا حيس ، قال : [ ص: 297 ] أما إني أصبحت أريد الصوم فأكل } . وقال بهذا جمهور السلف - : كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني ، وعبد الله بن أبي عتبة ، قال ثابت : عن أنس بن مالك : إن أبا طلحة كان يأتي أهله من الضحى ، فيقول : هل عندكم من غداء ؟ فإن قالوا : لا ، قال : فأنا صائم ، وقال ابن أبي عتبة : عن أبي أيوب الأنصاري بمثل فعل أبي طلحة سواء سواء .

ومن طريق حماد بن سلمة : حدثتني أم شبيب عن عائشة أم المؤمنين قالت : إني لأصبح يوم طهري حائضا وأنا أريد الصوم ، فأستبين طهري فيما بيني وبين نصف النهار فأغتسل ثم أصوم ، ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج ومعمر ، قال ابن جريج : أخبرني عطاء ; وقال معمر : عن الزهري ، وأيوب السختياني ، قال الزهري عن أبي إدريس الخولاني ، وقال أيوب : عن أبي قلابة ، ثم اتفق عطاء ، وأبو إدريس ، وأبو قلابة كلهم عن أم الدرداء ، أن أبا الدرداء كان إذا أصبح سأل أهله الغداء ، فإن لم يكن ; قال : إنا صائمون .

وقال عطاء في حديثه : إن أبا الدرداء كان يأتي أهله حين ينتصف النهار ، فيقول : هل من غذاء ؟ فيجده ، أو لا يجده ، فيقول : لأتمن صوم هذا اليوم . قال عطاء : وأنا أفعله ، ومن طريق قتادة : أن معاذ بن جبل كان يسأل الغداء ، فإن لم يجده صام يومه ، ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني عبيد الله بن عمر قال : إن أبا هريرة [ ص: 298 ] كان يصبح مفطرا ، فيقول : هل من طعام ؟ فيجده ، أو لا يجده ; فيتم ذلك اليوم .

ومن طريق الحارث عن علي بن أبي طالب قال : إذا أصبحت وأنت تريد الصوم فأنت بالخيار : إن شئت صمت وإن شئت أفطرت ; إلا أن تفرض على نفسك الصوم من الليل ؟ ومن طريق ابن جريج : حدثني جعفر بن محمد عن أبيه أن رجلا سأل علي بن أبي طالب ، فقال : أصبحت ولا أريد الصوم ؟ فقال له علي : أنت بالخيار بينك وبين نصف النهار ، فإن انتصف النهار فليس لك أن تفطر .

ومن طريق طاوس عن ابن عباس ، ومن طريق سعد بن عبيدة عن ابن عمر ، قالا جميعا : الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار ; قال ابن عمر : ما لم يطعم ، فإن بدا له أن يطعم طعم ، وإن بدا له أن يجعله صوما كان صوما . ومن طريق ابن أبي شيبة عن المعتمر بن سليمان التيمي عن حميد عن أنس بن مالك قال : من حدث نفسه بالصيام فهو بالخيار ما لم يتكلم ، حتى يمتد النهار .

ومن طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش عن عمارة عن أبي الأحوص قال قال ابن مسعود : إن أحدكم بأحد النظرين ما لم يأكل أو يشرب ، ومن طريق ابن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن الأعمش عن طلحة عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن هو السلمي - عن حذيفة : أنه بدا له في الصوم بعد أن زالت الشمس فصام . وعن حذيفة أيضا أنه قال : من بدا له في الصيام بعد أن تزول الشمس فليصم .

ومن طريق معمر عن عطاء الخراساني : كنت في سفر وكان يوم فطر ; فلما كان بعد نصف النهار قلت : لأصومن هذا اليوم ; فصمت ، فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب ، فقال : أصبت ، قال عطاء : وكنت عند سعيد بن المسيب فجاءه أعرابي عند العصر [ ص: 299 ] فقال : إني لم آكل اليوم شيئا أفأصوم . ؟ قال : نعم ، قال : فإن علي يوما من رمضان ، أفأجعله مكانه ؟ قال نعم .

ومن طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال : إذا عزم على الصوم من الضحى فله النهار أجمع ; فإن عزم من نصف النهار فله ما بقي من النهار ; وإن أصبح ولم يعزم فهو بالخيار ما بينه وبين نصف النهار ، ومن طريق ابن جريج : سألت عطاء عن رجل كان عليه أيام من رمضان ، فأصبح وليس في نفسه أن يصوم ، ثم بدا له بعدما أصبح أن يصوم وأن يجعله من قضاء رمضان . فقال عطاء : له ذلك .

ومن طريق مجاهد : الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار ، فإذا جاوز ذلك فإنما له بقدر ما بقي من النهار . ومن طريق أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي : من أراد الصوم فهو بالخيار ما بينه وبين نصف النهار .

ومن طريق هشام عن الحسن البصري قال : إذا تسحر الرجل فقد وجب عليه الصوم ، فإن أفطر فعليه القضاء ، وإن هم بالصوم فهو بالخيار ، إن شاء صام وإن شاء أفطر ; فإن سأله إنسان فقال : أصائم أنت ؟ فقال : نعم ، فقد وجب عليه الصوم إلا أن يقول : إن شاء ، فإن قالها فهو بالخيار ; إن شاء صام وإن شاء أفطر .

فهؤلاء من الصحابة : عائشة أم المؤمنين ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأنس ، وأبو طلحة ، وأبو أيوب ، ومعاذ بن جبل ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة ، وابن مسعود وحذيفة .

ومن التابعين : ابن المسيب ، وعطاء الخراساني ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد والنخعي ، والشعبي ، والحسن . وقال سفيان الثوري ، وأحمد بن حنبل : من أصبح وهو ينوي الفطر إلا أنه لم يأكل ولا شرب ولا وطئ - : فله أن ينوي الصوم ما لم تغب الشمس ، ويصح صومه بذلك .

[ ص: 300 ] قال أبو محمد : فنقول : معاذ الله أن نخالف شيئا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن نصرفه عن ظاهره بغير نص آخر ، وهذا الخبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه ليس فيه أنه عليه السلام لم يكن نوى الصيام من الليل ، ولا أنه عليه السلام أصبح مفطرا ثم نوى الصوم بعد ذلك ، ولو كان هذا في ذلك الخبر لقلنا به ، لكن فيه : أنه عليه السلام ، كان يصبح متطوعا صائما ثم يفطر ، وهذا مباح عندنا لا نكرهه ، كما في الخبر ، فلما لم يكن في الخبر ما ذكرنا ، وكان قد صح عنه عليه السلام { لا صيام لمن لم يبيته من الليل } لم يجز أن نترك هذا اليقين لظن كاذب . ولو أنه عليه الصلاة والسلام أصبح مفطرا ثم نوى الصوم نهارا لبينه ، كما بين ذلك في صيام عاشوراء إذ كان فرضا ، والتسمح في الدين لا يحل ، فإن قيل : قد رويتم من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيء فيدعو بالطعام فلا يجده فيفرض الصوم } .

وروي عن ابن قانع - راوي كل بلية - عن موسى بن عبد الرحمن السلمي البلخي عن عمر بن هارون عن يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح ولم يجمع الصوم ثم يبدو له فيصوم } قلنا : ليث ضعيف ، ويعقوب بن عطاء : هالك ، ومن دونه ظلمات بعضها فوق بعض ، والله لو صح لقلنا به .

قال أبو محمد : أما المالكيون فيشنعون بخلاف الجمهور ، وخالفوا هاهنا الجمهور بلا رقبة .

وأما الحنفيون فما نعلم أحدا قبلهم أجاز أن يصبح في رمضان عامدا لإرادة الفطر ، ثم يبقى كذلك إلى قبل زوال الشمس ثم ينوي الصيام حينئذ ويجزئه ، وادعوا [ ص: 301 ] الإجماع على أنه لا تجزئ النية بعد زوال الشمس في ذلك قد كذبوا ، ولا مؤنة عليهم من الكذب ، وقد صح هذا عن حذيفة نصا ، وعن ابن مسعود بإطلاق ، وعن أبي الدرداء نصا ، وعن سعيد بن المسيب نصا ، وعن عطاء الخراساني كذلك ، وعن الحسن ، وعن سفيان الثوري ، وأحمد بن حنبل . قال أبو محمد : ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية