صفحة جزء
770 - مسألة : - والحامل ، والمرضع ، والشيخ الكبير كلهم مخاطبون بالصوم فصوم رمضان فرض عليهم ، فإن خافت المرضع على المرضع قلة اللبن وضيعته لذلك ولم يكن له غيرها ، أو لم يقبل ثدي غيرها ، أو خافت الحامل على الجنين ، أو عجز الشيخ عن الصوم لكبره : أفطروا ولا قضاء عليهم ولا إطعام ، فإن أفطروا لمرض بهم عارض فعليهم القضاء .

أما قضاؤهم لمرض فلقول الله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } .

وأما وجوب الفطر عليهما في الخوف على الجنين ، والرضيع فلقول الله تعالى : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم } . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من لا يرحم لا يرحم } فإذ رحمة الجنين ، والرضيع : فرض ، ولا وصول إليها إلا بالفطر : فالفطر فرض ; وإذ هو فرض فقد سقط عنهما الصوم ، وإذا سقط الصوم فإيجاب القضاء عليهما شرع لم يأذن الله تعالى به ولم يوجب الله تعالى القضاء إلا على المريض ، والمسافر ، والحائض ، والنفساء ، ومتعمد القيء فقط ، { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } . [ ص: 411 ]

وأما الشيخ الذي لا يطيق الصوم لكبره فالله تعالى يقول { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فإذا لم يكن الصوم في وسعه فلم يكلفه . وأما تكليفهم إطعاما فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فلا يجوز لأحد إيجاب غرامة لم يأت بها نص ولا إجماع . قال أبو محمد : روينا عن إبراهيم أن علقمة جاءته امرأة فقالت له : إني حبلى وأنا أطيق الصوم وزوجي يأمرني أن أفطر ؟ فقال لها علقمة : أطيعي ربك وأعصي زوجك . وممن أسقط عنها القضاء - : روينا عن حماد بن سلمة عن أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع أن امرأة من قريش سألت ابن عمر وهي حبلى ؟ فقال لها : أفطري وأطعمي كل يوم مسكينا ولا تقضي . ومن طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني ، وقتادة كلاهما عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لأمة له مرضع : أنت بمنزلة { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } أفطري وأطعمي كل يوم مسكينا ولا تقضي . روينا كليهما من طريق إسماعيل بن إسحاق عن الحجاج بن المنهال عن حماد ، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير قال : تفطر الحامل التي في شهرها والمرضع التي تخاف على ولدها وتطعم كل واحدة منهما كل يوم مسكينا ولا قضاء عليهما . وبه يقول قتادة ، وهو ظاهر قول سعيد بن المسيب .

وممن أسقط الإطعام كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : تفطر الحامل ، والمرضع في رمضان ويقضيانه صياما ولا إطعام عليهما .

ومثله عن عكرمة ، وعن إبراهيم النخعي - وهو قول أبي حنيفة ، وسفيان .

وممن رأى عليهما الأمرين جميعا : عطاء بن أبي رباح فإنه قال : إذا خافت المرضع والحامل على ولدها فلتفطر ولتطعم مكان كل يوم نصف صاع ولتقض بعد ذلك - وهو قول الشافعي .

قال أبو محمد : فلم يتفقوا على إيجاب القضاء ولا على إيجاب الإطعام فلا يجب [ ص: 412 ] شيء من ذلك ; إذ لا نص في وجوبه ولا إجماع ، وعهدنا بهم يقولون في قول الصاحب إذا وافقهم . مثل هذا لا يقال بالرأي ، فهلا قالوا هاهنا في قول ابن عمر في إسقاط القضاء ؟

وقد روينا عن ابن عباس مثل قولنا كما روينا عن إسماعيل بن إسحاق نا إبراهيم بن حمزة الزبيري نا عبد العزيز بن محمد هو الدراوردي عن حميد عن بكر بن عبد الله المزني عن ابن عباس أنه سئل عن مرضع في رمضان خشيت على ولدها فرخص لها ابن عباس في الفطر .

قال علي : ولم يذكر قضاء ولا طعاما ، وقال مالك : أما المرضع فتفطر وتطعم عن كل يوم مسكينا وتقضي مع ذلك ، وأما الحامل فتقضي ولا إطعام عليها ، ولا يحفظ هذا التقسيم عن أحد من الصحابة والتابعين ؟ قال أبو محمد : احتج من رأى الإطعام في ذلك بقول الله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } .

وذكروا ما رويناه من طريق حماد بن سلمة نا قتادة عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في الحبلى والمرضع ، والشيخ ، والعجوز .

واحتج من رأى القضاء بما رويناه من طريق يزيد بن هارون عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يرخص للحبلى ، والمرضع أن يفطرا في رمضان فإذا أفطمت المرضع ، ووضعت الحبلى جددتا صومهما } . قال علي : حديث عكرمة مرسل ; وحديث الضحاك فيه ثلاث بلايا ، جويبر وهو ساقط والضحاك مثله والإرسال مع ذلك ، لكن الحق في ذلك ما رويناه قبل في حكم الصوم في السفر من طريق سلمة بن الأكوع ، أن هذه الآية منسوخة .

ومن طريق حماد بن زيد عن سلمة بن علقمة بن محمد بن سيرين عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية { فدية طعام مسكين } فقال : هي منسوخة ، فهذا هو المسند الصحيح الذي لا يجوز خلافه . [ ص: 413 ]

والعجب كل العجب من هؤلاء القوم فإنهم يصرفون هذه الآية تصريف الأفعال في غير ما أنزلت فيه ، فمرة يحتجون بها في أن الصوم في السفر أفضل ، ومرة يصرفونها في الحامل ، والمرضع ، والشيخ الكبير ، وكل هذا إحالة لكلام الله تعالى ، وتحريف للكلم عن مواضعه ، وما ندري كيف يستجيز - من يعلم أن وعد الله حق - مثل هذا في القرآن وفي دين الله تعالى ؟ ونعوذ بالله من الضلال ؟ وأما الشيخ الكبير فإن أبا حنيفة أوجب عليه إطعام مسكين مكان كل يوم ، ولم ير مالك الإطعام عليه واجبا " .

وقال الشافعي مرة كقول أبي حنيفة ، ومرة كقول مالك .

قال أبو محمد : روينا من طريق إسماعيل عن علي بن عبد الله عن سفيان ، وجرير قال سفيان قال عمرو بن دينار : أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقرؤها ( وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين ) يكلفونه ولا يطيقونه .

قال : هذا الشيخ الكبير الهرم والمرأة الكبيرة الهرمة لا يستطيع الصوم يفطر ويطعم كل يوم مسكينا .

وقال جرير عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس : مثله .

قال علي : هذا صحيح عن ابن عباس ، وروينا عن علي بن أبي طالب أنه قال في الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم : إنه يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا ، وصح عن أنس أنه ضعف عن الصوم - إذ كبر - فكان يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا ، قال قتادة : الواحد كفارة ، والثلاثة تطوع .

ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبد الرحمن بن حرملة قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول في قول الله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } هو الكبير الذي عجز عن الصوم ، والحبلى يشق عليها الصوم ، فعلى كل واحد منهما إطعام مسكين عن كل يوم .

وعن الحسن ، وقتادة في الشيخ الكبير ، والعجوز : أنهما يطعمان مكان كل يوم مسكينا . وعن عطاء ، والحسن ، وسعيد بن جبير مثل ذلك . [ ص: 414 ]

وروي عن قيس بن السائب وهو من الصحابة مثل ذلك . وعن أبي هريرة أنه يتصدق عن كل يوم بدرهم . وعن مكحول ، وطاوس ، ويحيى بن أبي كثير فيمن منعه العطاش من الصوم : أنه يفطر ويطعم عن كل يوم مدا . قال أبو محمد : فرأى أبو حنيفة على الشيخ الذي لا يطيق الصوم لهرمه إطعام مسكين مكان كل يوم ، ولم يره على الحامل والمرضع . وأوجبه مالك على المرضع خاصة ، ولم يوجبه على الحامل ولا الشيخ الكبير ; وهذا تناقض ظاهر . واحتج بعض الحنفيين بأن الحامل والمرضع بمنزلة المريض والمسافر ; لأنهم كلهم أبيح لهم الفطر دون إطعام . قال علي : والشيخ كذلك وهو أشبه بالمريض ، والمسافر ، لأنه أبيح له الفطر من أجل نفسه كما أبيح لهما من أجل أنفسهما ; وأما الحامل والمرضع ; فإنما أبيح لهما الفطر من أجل غيرهما . قال علي : وأما المالكيون فيشنعون بخلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم . وقد خالفوا هاهنا : عليا ، وابن عباس ، وقيس بن السائب ; وأبا هريرة ، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف . وخالفوا : عكرمة ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، وهم يشنعون بمثل هذا . قال أبو محمد : وأما نحن فلا حجة عندنا في غير النبي صلى الله عليه وسلم .

وأما الرواية عن ابن عباس : أنه كان يقرؤها ( وعلى الذين يطوقونه ) فقراءة لا يحل لأحد أن يقرأ بها ; لأن القرآن لا يؤخذ إلا عن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن احتج بهذه الرواية فليقرأ بهذه القراءة وحاش الله أن يطوق الشيخ ما لا يطيقه .

وقد صح عن سلمة بن الأكوع ، وعن ابن عباس نسخ هذه الآية كما ذكرنا في هذا الباب ، وفي باب صوم المسافر ، وأنها لم تنزل قط في الشيخ ، ولا في الحامل ، ولا في [ ص: 415 ] المرضع وإنما نزلت في حال وقد نسخت وبطلت . والشيخ ، والعجوز اللذان لا يطيقان الصوم فالصوم لا يلزمهما قال الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وإذا لم يلزمهما الصوم فالكفارة لا تلزمهما ، لأن الله تعالى لم يلزمهما إياها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم والأموال محرمة إلا بنص أو إجماع ؟ والعجب كله من أن أبا حنيفة ، ومالكا ، والشافعي يسقطون الكفارة عمن أفطر في نهار رمضان عمدا وقصد إبطال صومه عاصيا ، لله تعالى بفعل قوم لوط ، وبالأكل ، وشرب الخمر عمدا وبتعمد القيء . نعم ، وبعضهم يسقط القضاء والكفارة عنه فيمن أخرج من بين أسنانه شيئا من طعامه فتعمد أكله ذاكرا لصومه ، ثم يوجبون الكفارة على من أفطر ممن أمره الله تعالى بالإفطار وأباحه له من مرضع خائفة على رضيعها التلف ، وشيخ كبير لا يطيق الصوم ضعفا ، وحامل تخاف على ما في بطنها ; وحسبك بهذا تخليطا ; ولا يحل قبول مثل هذا إلا من الذي { لا يسأل عما يفعل } وهو الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية