صفحة جزء
وأما قولنا : لا يقطع التلبية إلا مع آخر حصاة من جمرة العقبة ; فإن مالكا قال : يقطع التلبية إذا نهض إلى عرفة ، وذكروا في ذلك رواية عن عائشة أم المؤمنين ، وابن عمر ، وعن علي ; واحتجوا بأن قالوا : التلبية استجابة فإذا وصل فلا معنى للتلبية .

قال أبو محمد : أما الرواية عن علي فلا تصح ; لأنها منقطعة إليه ; والصحيح عنه خلاف ذلك ، وأما عن أم المؤمنين ، وابن عمر فقد خالفهما غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم ، وإذا وقع التنازع فالمرجوع فيه إلى ما افترض الله - تعالى - الرجوع إليه من القرآن والسنة .

وأما قولهم : إن التلبية استجابة فدعوى لا برهان على صحتها ; ولو كان ما قالوا : لوجبت التلبية عند سماع الأذان ، ووجوب النهوض إلى الجمعة وغيرها ; وما التلبية إلا شريعة أمر الله بها لا علة لها إلا ما قال تعالى : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } .

ثم لو كانت استجابة كما قالوا : لكان لم يصل بعد إلى ما دعي إليه لأنه قد بقيت عليه فروض من فروض الحج لا يكون واصلا إلى ما دعي إليه إلا بتمامها كعرفة ، وطواف الإفاضة - : روينا من طريق أبي داود نا أحمد بن حنبل نا وكيع عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن الفضل بن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حتى رمى جمرة العقبة } . وصح أيضا من طريق أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ومن طريق مسلم نا شريح بن يونس نا هشيم أنا حصين هو ابن عبد الرحمن - عن كثير بن مدرك الأشجعي عن عبد الرحمن بن يزيد { أن عبد الله بن مسعود لبى حين أفاض من جمع فقيل له : عن أي هذا ؟ فقال : أنسي الناس أم ضلوا ؟ سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المكان : لبيك اللهم لبيك } . [ ص: 134 ] ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس أن ميمونة أم المؤمنين لبت حين رمت الجمرة .

وبه إلى سفيان عن عامر بن شقيق سمعت أبا وائل يقول : قال ابن مسعود : لا يمسك الحاج عن التلبية حتى يرمي جمرة العقبة .

ومن طريق حماد بن زيد نا أيوب السختياني أنه سمع عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد يقول : حدثني أبي أنه سمع عمر بن الخطاب يلبي بعرفة .

ومن طريق حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : سمعت عمر يلبي غداة المزدلفة .

وعن ابن أبي شيبة نا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق سمعت عكرمة يقول : { أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رمى الجمرة ، وأبو بكر ، وعمر } .

وعن علي بن أبي طالب أنه لبى حتى رمى جمرة العقبة .

وعن القاسم بن محمد عن أم المؤمنين عائشة كانت تلبي بعد عرفة - وعن سفيان بن عيينة سمع سعد بن إبراهيم يحدث الزهري عن عبد الرحمن بن الأسود أن أباه صعد إلى ابن الزبير المنبر يوم عرفة فقال له : ما يمنعك أن تهل ؟ فقد رأيت عمر في مكانك هذا يهل ؟ فأهل ابن الزبير .

وعن ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد يقول : تلبي حتى ينقضي حرمك إذا رميت الجمرة - وعن سفيان الثوري عن عبد الله بن الحسن عن عكرمة قال : كنت مع الحسين بن علي فلبى حتى رمى جمرة العقبة .

قال أبو محمد : وكان معاوية ينهى عن ذلك .

ومن طريق مالك عن يحيى بن سعيد قال : غدا عمر بن عبد العزيز من منى إلى عرفة فسمع التكبير عاما فبعث الحرس يصيحون : أيها الناس إنها التلبية .

ومن طريق سعيد بن منصور نا جرير عن المغيرة قال : ذكر عند إبراهيم النخعي إذا قدم الحاج أمسك عن التلبية ما دام يطوف بالبيت فقال إبراهيم : لا ، بل يلبي قبل الطواف ، وفي الطواف ، وبعد الطواف ، ولا يقطعها حتى يرمي الجمرة - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي سليمان . [ ص: 135 ] قال أبو محمد : إلا أن أبا حنيفة ، والشافعي قالا : يقطع التلبية مع أول حصاة يرميها في الجمرة ؟ وليس كذلك بل مع آخر حصاة من الجمرة لأنه نص فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما { حكى ابن عباس ، وأسامة : أنه عليه السلام لبى حتى رمى جمرة العقبة } ولو كان ما قاله أبو حنيفة ، والشافعي ، لقالا : حتى بدأ رمي جمرة العقبة .

روينا من طريق الحذافي عن عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن إبراهيم بن حنين عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب يهل وهو يرمي جمرة العقبة فقلت له : فيما الإهلال يا أمير المؤمنين ؟ فقال : وهل قضينا نسكنا بعد ؟ وهو المفهوم الظاهر من فعل كل من ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم .

وقال قوم منهم مالك : إن الحاج يقطع التلبية إذا طاف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، فإذا أتم ذلك عاودها .

قال أبو محمد : وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يقطعها - وهذا هو الحق ; لما ذكرنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حتى رمى جمرة العقبة - : روينا من طريق أبي داود نا عبد الله بن محمد النفيلي ، وعثمان بن أبي شيبة قالا : نا حاتم بن إسماعيل نا جعفر بن محمد عن أبيه أن جابر بن عبد الله أخبره فذكر { حديث حجة النبي صلى الله عليه وسلم وقال : فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، فأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته } فصح أنه عليه السلام لم يقطعها - : ومن طريق سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن أبي وائل عن مسروق أنه رأى عبد الله بن مسعود طاف بالبيت سبعا ثم خرج إلى الصفا قال : فقلت له : يا أبا عبد الرحمن إن ناسا ينهون عن الإهلال في هذا المكان ؟ فقال : لكني آمرك به ; وذكر باقي الخبر .

فإن ذكروا : ما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا صفوان بن عيسى عن [ ص: 136 ] الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن مجاهد عن عبد الله بن سخبرة عن { عبد الله بن مسعود قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ترك التلبية حتى أتى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بتكبير أو بتهليل - : ومن طريق } ابن أبي شيبة نا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عكرمة قال : { سمعت الحسن بن علي يلبي حتى انتهى إلى الجمرة وقال لي : سمعت أبي علي بن أبي طالب يهل حتى انتهى إلى الجمرة ، وحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل حتى انتهى إليها } .

قلنا : الحارث ضعيف ، وأبان بن صالح ليس بالقوي ; ثم لو صحا لكان خبر الفضل بن عباس ، وأسامة بن زيد : زائدين على هذين الخبرين زيادة لا يحل تركها رغبة عنها واختيارا لغيرها عليها ; وليس في هذين الخبرين نهي عما في خبر ابن عباس ، وأسامة .

وقال قوم : يقطع المعتمر التلبية إذا دخل الحرم .

وقالت طائفة : لا يقطعها إلا حتى يرى بيوت مكة .

وقالت طائفة : حتى يدخل بيوت مكة .

وقال أبو حنيفة : لا يقطعها حتى يستلم الحجر فإذا استلمه قطعها .

وقال الليث : إذا بلغ الكعبة قطع التلبية .

وقال الشافعي : لا يقطعها حتى يفتتح الطواف - وقال مالك : من أحرم من الميقات قطع التلبية إذا دخل أول الحرم فإن أحرم من الجعرانة ، أو من التنعيم قطعها إذا دخل بيوت مكة ، أو إذا دخل المسجد - : روينا عن وكيع عن عمر بن ذر عن مجاهد قال : قال ابن عباس : لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الركن ، وكان ابن عمر يقطعها إذا رأى بيوت مكة - قال وكيع : وحدثنا سفيان هو الثوري - عن عبد الله بن دينار قال : قال ابن عمر : يقطع التلبية إذا دخل الحرم .

قال أبو محمد : والذي نقول به فهو قول ابن مسعود الذي ذكرنا آنفا أنه لا يقطعها حتى يتم جميع عمل العمرة ; فإن ذكروا : ما روينا عن سعيد بن منصور نا هشيم نا ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى في عمرته حتى استلم الحجر } : [ ص: 137 ] ومن طريق حفص بن غياث عن الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : { اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثلاث عمر ، كل ذلك لا يقطع التلبية حتى يستلم الحجر } ؟ فهذان أثران ضعيفان - في أحدهما : ابن أبي ليلى - وهو سيئ الحفظ - وفي الآخر : الحجاج ، وناهيك به ; وهو أيضا صحيفة .

فإن قالوا : فهل عندكم اعتراض ؟ فيما رويتم من طريق أحمد بن شعيب عن يعقوب بن إبراهيم عن ابن علية عن أيوب عن نافع قال : { كان ابن عمر إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ، ثم يصلي به الصبح ، ويحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يفعل ذلك } ؟ قلنا : لا معترض فيه وهو صحيح ، إلا أنه لا حجة لكم فيه ; أول ذلك : أنه ليس في هذا الخبر ما تذكرون من أن ذلك كان في العمرة ; فهو مخالف لما اختاره أبو حنيفة ، والشافعي في الحج ، ولما اختاره أبو حنيفة في العمرة أيضا .

ثم نقول لمن ذهب إلى قول مالك في هذا : إن هذا خبر لا حجة لكم فيه ; لأنه قد يمكن أن ابن عمر إنما أشار بقوله { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك } إلى المبيت بذي طوى وصلاة الصبح بها فقط ; وهكذا نقول .

أو يكون أشار بذلك إلى قطع التلبية كما تقولون ; فإن كان هذا فخبر جابر بن عبد الله ، وأسامة ، وابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم التلبية ولم يقطعها حتى رمى جمرة العقبة } زائد على ما في خبر ابن عمر ، وزيادة العدل لا يجوز تركها ; لأنه ذكر علما كان عنده لم يكن عند ابن عمر الذي لم يذكره - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية