صفحة جزء
وأما قولنا - : فأما المتمتع فإن كان من غير أهل الحرم أو لم يكن أهله معه قاطنين هنالك ففرض عليه أن يهدي هديا ولا بد ; ولا يجزئه أن يهديه إلا بعد أن يحرم بالحج . [ ص: 142 ] فإن لم يجد هديا ولا ما يبتاعه به فليصم ثلاثة أيام من يوم يحرم بالحج إلى انقضاء يوم عرفة وسبعة أيام إذا انقضت أيام التشريق .

فإن لم يصم الثلاثة الأيام كما ذكرنا فليؤخر طواف الإفاضة حتى تنقضي أيام التشريق ، ثم يصوم الثلاثة الأيام ، فإذا أتمها كلها طاف طواف الإفاضة في اليوم الرابع ، ثم ابتدأ بصيام السبعة الأيام .

فإن لم يفعل حتى خرج عن عمل الحج صام السبعة الأيام فقط واستغفر الله إن كان تعمد ترك صيام الثلاثة الأيام .

ولو وجد هديا بعد إحرامه بالحج لم يجزه وفرضه الصوم ولا بد ، فإن وجده قبل أن يحرم بالحج ففرضه الهدي - فلقول الله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وهذا نص ما قلناه - ولله الحمد كثيرا .

وقد أجاز قوم أن يصوم الثلاثة الأيام قبل أن يحرم بالحج ، وهذا خطأ ; لأنه خلاف أمر الله - تعالى - بأن يصومها في الحج ، وما لم يحرم المرء فليس هو في الحج فليس هو في وقت صيام الثلاثة الأيام .

وأيضا فإنه لا يجب عليه الهدي المذكور ولا الصيام المذكور إلا بتمتعه بالعمرة إلى الحج بنص كلام الله تعالى ، وهو ما لم يحرم بالحج فليس هو بعد ممن تمتع بالعمرة إلى الحج ، ولا يجزئ [ أداء ] فرض إلا في وقته الذي أوجبه الله - تعالى - فيه .

وأجاز قوم أن يصوم الثلاثة الأيام في أيام التشريق وهذا خطأ ، وقد ذكرنا البرهان على بطلان [ هذا القول ] في كتاب الصيام من هذا الديوان ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام التشريق جملة .

وبه يقول الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأبو سليمان ، وغيرهم .

وروينا من طريق ابن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال : لا يصوم المتمتع إلا وهو محرم لا يقضي عنه إلا ذلك . [ ص: 143 ] وروينا عن عائشة وابن عمر أيضا جواز صيام أيام التشريق للمتمتع ، ولا حجة مع التنازع إلا فيما صح عن الله - تعالى ، أو عن رسوله عليه السلام .

وروينا عن علي من طريق منقطعة عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا قال في المتمتع : يفوته الصوم في العشر : أنه يتسحر ليلة الحصبة فيصوم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع .

قال أبو محمد : ليلة الحصبة هي الليلة الرابعة عشر من ذي الحجة التالية لآخر أيام التشريق - وروينا عن عمر ، وابن عباس : أن من لم يصم الثلاثة الأيام في عشر ذي الحجة لم يكن له أن يصومها بعد .

قال علي : قول الله تعالى - هو الحاكم على كل شيء - ولم يوجب - تعالى - صيام الثلاثة الأيام إلا في الحج ، فليس له أن يصومها لا قبل الحج ولا بعد الحج ; لأنه يكون مخالفا لأمر الله - تعالى - في ذلك ، ولم يوجب - عز وجل - صيامها في الإحرام لكن في الحج ، وهو ما لم يطف طواف الإفاضة فهو في الحج بعد .

وقال أبو حنيفة : إن صام الثلاثة الأيام بعد أن أحرم بالعمرة ، وقبل أن يطوف لها أو بعد تمامها ، وقبل أن يحرم بالحج أجزأه ذلك ، ولا يجزئه أن يصوم السبعة الأيام في عشر ذي الحجة ; فكان هذا تناقضا لا خفاء به ، وخلافا للقرآن كما ذكرنا بلا دليل .

وقال بعضهم : معنى قوله تعالى : { في الحج } أي في أشهر الحج ؟ فقلنا : هذا كذب على القرآن ، فإن كان كما تزعمون فأجيزوا له صيامها في أشهر الحج قبل أن يعتمر ، وإلا فقد تناقضتم ، وصح عن أم المؤمنين عائشة ، وعن ابن عمر أنه لا يصوم الثلاثة الأيام إلا بعد إحرامه بالحج ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي سليمان ، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في ذلك ; وقال الشافعي : يصومهن بعد أيام التشريق ويفرق بين الثلاثة والسبعة ولو بيوم .

قال علي : وهذا خطأ وخلاف للقرآن كما ذكرنا ، ولا فرق بين تقديم الفرض قبل وقته ، وبين تأخيره بعد وقته بغير نص

وقال عطاء : لا يجزئ هدي المتعة إلا بعد الوقوف بعرفة .

وقال عمرو بن دينار يجزئ مذ يحرم بالحج ، وبه نأخذ لما ذكرنا آنفا . [ ص: 144 ] واختلفوا في معنى قوله تعالى : { وسبعة إذا رجعتم } .

فقال قوم : إذا رجعتم إلى بلادكم ، وقال آخرون : إذا رجعتم من عمل الحج - وهو قول سفيان ، وأبي حنيفة ، وهو الصحيح ; لأنه لا يجوز تخصيص القرآن بلا نص ولا ضرورة موجبة لتخصيصه ، وقد ذكر - تعالى - صيام الثلاثة الأيام في الحج ; ثم قال عز وجل : { وسبعة إذا رجعتم } فصح أنه على ظاهره وعمومه بعد رجوعه من الحج الموجب عليه ذلك الصيام وبالله - تعالى - التوفيق .

فإن قيل : فقد رويتم من طريق البخاري عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة ، ويقصر ، ويحل ، ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله } .

قلنا : نعم والرجوع إلى أهله يقع على وجهين : أحدهما المشي إلى بلده ، والآخر الرجوع إلى أهله ; وإن حل له فيها ما كان له حراما بالعمل للحج .

ولا يجوز تخصيص اللفظ إلا بنص أو إجماع فحمله على كل ما يقع عليه اسم رجوع هو الواجب ، فإن صام السبعة إذا رجع إلى أهله من تحريمها عليه فذلك جائز ، وإن صامها إذا رجع بالمشي فذلك جائز .

قال أبو محمد : فإن لم يصم الثلاثة الأيام حتى أتم الحج فقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه يعود عليه الهدي وصح ذلك عن ابن عباس وهو قول عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والنخعي ، والحكم .

وروي عنه أيضا أن عليه هديين : هدي المتعة ، وهديا لتأخيره ، ولم يصح عنه - وبه يأخذ أبو حنيفة ، وأصحابه .

وقال مالك ، والشافعي : يصومهن بعد الحج - وهذا قول روي عن علي ولم يصح عنه - وقال سعيد بن جبير : يطعم عن الثلاثة الأيام ويصوم السبعة .

قال علي : ولا حجة في أحد مع الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد نص - عز وجل - على أن من لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع . [ ص: 145 ] فصح يقينا أن من لم يجد هديا ، ولا ثمنه أن فرضه الصوم المذكور ، وأنه لا هدي عليه ، فإذا هو كذلك بيقين ، وبلا خلاف من أحد فلا يجوز سقوط فرضه الواجب عليه .

وإيجاب هدي قد جاء القرآن بسقوطه عنه بقول مختلف فيه لا يصححه قرآن ، ولا سنة ، ولا يجزئه أيضا أن يصوم الثلاثة الأيام في غير الوقت الذي افترض الله - تعالى - عليه صيامها فيه بقول مختلف فيه لا يصححه قرآن ، ولا سنة - وعمر ، وابن عباس يقولان : لا يصوم بعد - وعلي يقول : لا يهدي بعد - وسعيد بن جبير يقول : لا يهدي ولا يصومهن ، لكن يطعم - وغيره لا يرى الإطعام ، فلم يصح إيجاب صوم ، أو هدي ، أو إطعام بغير إجماع ولا نص ; بل النص مانع منهما ، وغير موجب للإطعام .

وقد وجدنا الله - تعالى - يقول : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . وهو ليس في وسعه أن يصوم الثلاثة الأيام في وقت قد فات ، فصح أنه ليس مكلفا بعد ما ليس في وسعه من ذلك . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } فسقط عنه صوم الثلاثة الأيام لعجزه عن أدائها كما أمر وبقي عليه صيام السبعة الأيام ، لأنه مستطيع عليها فعليه أن يأتي بها أبدا وتجزئ عنه ، فإن مات ، ولم يصمها صامها عنه وليه على ما ذكرنا في كتاب الصيام ولا تصام عنه الثلاثة الأيام لأنها ليست عليه بعد ، إلا أنه عاص لله - تعالى - إن كان تعمد ترك صيامها حتى فات وقتها فليستغفر الله - عز وجل - وليتب وليكثر من فعل الخير ، ولا حرج عليه إن كان تركها لعذر لقول الله - تعالى - : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } .

قال أبو محمد : وقال أبو حنيفة : إن وجد هديا قبل أن يتم صيام الثلاثة الأيام أو بعد أن أتمهن ، وقبل أن يحل في أيام النحر فقد بطل صومه وعاد حكمه إلى الهدي ، وإن وجد الهدي بعد انقضاء أيام النحر - وقد حل أو لم يحل - فصومه تام ، ولا هدي عليه .

وقال مالك ، والشافعي : إن وجد الهدي بعد أن دخل في الصوم ففرضه الصوم [ ولا هدي عليه ] وإن وجد الهدي قبل أن يأخذ في الصوم عاد حكمه إلى الهدي - : قال علي : كلا القولين لا دليل عليه ولا حجة في أحد مع كلام الله - تعالى - وإنما أوجب - تعالى - ما أوجب من الهدي ، أو من الصوم إن لم يجد الهدي بأن يكون متمتعا [ ص: 146 ] بالعمرة إلى الحج فهو ما لم يحرم بالحج ، فليس متمتعا بالعمرة إلى الحج فلم يجب عليه - حتى الآن - هدي ، ولا صوم .

ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن المسلم إن اعتمر ، وهو يريد التمتع ثم لم يحج من عامه ذلك فإنه لا هدي عليه ولا صوم ، فصح يقينا أنه لا يجب عليه ذلك إلا بدخوله في الحج ، فإنه حينئذ يصير متمتعا بالعمرة إلى الحج ، فإذا لا شك في هذا فإنما حكمه حين وجب عليه ذلك الحكم بالتمتع لا قبل ذلك ولا بعد ذلك .

فإن كان في أثر حين إحرامه بالحج قادرا على هدي ففرضه الهدي بنص القرآن سواء أعسر بعد ذلك أو كان معسرا قبل ذلك ، ولا يسقط عنه ما أوجبه الله - تعالى - عليه من الهدي بدعوى لا برهان على صحتها من قرآن ولا سنة ، وعليه أن يهدي متى وجد .

فإن كان في أثر حين إحرامه بالحج لا يقدر على هدي ففرضه الصوم بنص القرآن سواء كان قبل ذلك قادرا على هدي أو قدر عليه بعد ذلك لا يسقط عنه ما أوجب الله - تعالى - عليه بالقرآن بدعوى لا برهان على صحتها من قرآن ولا سنة .

وقاسه الحنفيون على المطلقة التي لم تحض تعتد بالشهور فتحيض قبل إتمام عدتها فإنها تنتقل إلى العدة بالأقراء ، أو بالمطلقة يموت زوجها قبل تمام عدتها فتنتقل إلى عدة الوفاة .

قال أبو محمد : وهذا قياس ، والقياس كله باطل ، ثم لو صح لكان هذا منه عين الباطل لأنه لا نسبة بين الحج وبين الطلاق ، وإنما انتقلت التي لم تحض إلى العدة بالأقراء ; لأن القرآن جاء بذلك نصا ، وبأن عدة المطلقة الأقراء إلا أن التي لم تحض أو يئست من الحيض عدتها الشهور ، فإذا حاضت فبيقين ندري أنها ليست من اللواتي لم يحضن ، ولا من اللائي يئسن من المحيض فوجب أن تعتد بما أمرها الله - تعالى - أن تعتد به من الأقراء ، وإنما انتقلت المتوفى عنها زوجها إلى عدة الوفاة ; لأنها ما دامت في العدة فهي زوجة له ، وجميع أحكام الزوجية باق عليها ، وترثه ويرثها ، فإذا مات زوجها لزمها أن تعتد أربعة أشهر وعشرا كما أمرها الله - تعالى ، فظهر تخليط هؤلاء القوم ، وجهلهم بالقياس ، وخلافهم القرآن بآرائهم .

وأما قولنا : إن هذا حكم من كان أهله قاطنين في الحرم بمكة فلأن الله - تعالى [ ص: 147 ] قال : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } ووجدنا الناس اختلفوا - فقال أبو حنيفة : حاضرو المسجد الحرام هو من كان ساكنا في أحد المواقيت فما بين ذلك إلى مكة وهو قول روي عن عطاء ولم يصح عنه ، وصح عن مكحول . وقال الشافعي : هم من كان من مكة على أربعة برد بحيث لا يقصر الصلاة إلى مكة ; وصح هذا عن عطاء . وقال مالك : هم أهل مكة ، وذي طوى . وقال سفيان ، وداود : هم أهل دور مكة فقط ; وصح عن نافع مولى ابن عمر ، وعن الأعرج . وروينا عن عطاء ، وطاوس : أنهم أهل مكة إلا أن طاوسا قال : إذا اعتمر المكي من أحد المواقيت ثم حج من عامه فعليه ما على المتمتع - روينا ذلك من طريق وكيع عن سفيان عن عبد الله بن طاوس عن أبيه .

وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في حاضري المسجد الحرام قال : من كان أهله من مكة على يوم أو نحوه .

وقال آخرون : هم أهل الحرم كما روينا من طريق سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : المسجد الحرام : الحرم كله .

ومن طريق الحذافي عن عبد الرزاق نا معمر ، وسفيان بن عيينة قال معمر ، عن رجل عن ابن عباس ، وعن عبد الله بن طاوس عن أبيه ، وقال سفيان : عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، ثم اتفق ابن عباس ، وطاوس ، ومجاهد في قول الله - تعالى - : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } قالوا كلهم : هي لمن لم يكن أهله في الحرم .

قال أبو محمد : أما قول أبي حنيفة وأصحابه ففي غاية الفساد ، وما نعلم لهم حجة إلا أنهم قالوا : وجدنا من كان من أهل ما دون المواقيت لا يجوز لهم إذا أرادوا الحج أو [ ص: 148 ] العمرة أن يتجاوزوا المواقيت إلا محرمين ، وليس لهم أن يحرموا قبلها ، فصح أن للمواقيت حكما غير حكم ما قبلها .

قال علي : وهذا الاحتجاج في غاية الغثاثة ، ويقال لهم : [ نعم ] فكان ماذا ؟ ومن أين وجب من هذا أن يكون أهل المواقيت فما وراءها إلى مكة هم حاضرو المسجد الحرام ؟ وهل هذا التخليط إلا كمن قال : وجدنا كل من كان في أرض الإسلام ليس له أن يطلق سيفه - فيمن لقي - وغارته ؟ ووجدنا من كان في دار الحرب له أن يطلق سيفه وغارته ، فصح أن لأهل [ دار ] الإسلام حكما غير حكم غيرها فوجب من ذلك أن يكون جميع أهل دار الإسلام حاضري المسجد الحرام .

ثم يقال لهم : إن الحاضر عندكم يتم الصلاة ، والمسافر يقصرها فإذا كان أهل ذي الحليفة ، والجحفة حاضري المسجد الحرام - وهم عندكم يقصرون إلى مكة ويفطرون - فكيف يكون الحاضر يقصر ويفطر ؟ والعجب كله أن جعل من كان في ذي الحليفة ساكنا من حاضري المسجد الحرام وبينهم وبين مكة نحو مائتي ميل ، وجعل من كان ساكنا خلف يلملم ليس من حاضري المسجد الحرام وليس بينه وبينها إلا ثلاثة وثلاثون ميلا ، فهل في التخليط أكثر من هذا ؟ وإنا لله وإنا إليه راجعون ; إذ صارت الشرائع في دين الله - تعالى - تشرع بمثل هذا الرأي وأما قول مالك : فتخصيصه ذا طوى قول لا دليل عليه ولا نعلم هذا القول عن أحد قبل مالك ؟ وأما قول الشافعي : فإنه بنى قوله هاهنا على قوله فيما تقصر فيه الصلاة ، وقوله هنالك خطأ فبنى الخطأ على الخطأ - ويقال لهم : أنتم تقولون : لا يجوز التيمم للحاضر المقيم أصلا ويجوز لمن كان على ميل ونحوه من منزله ; فهلا جعلتم حاضري المسجد الحرام قياسا على من يجوز له التيمم ؟ وهذا ما لا انفكاك منه ، وهذا مما خالف فيه الحنفيون ، والمالكيون ، والشافعيون : صاحبا ، لا يعرف له مخالف من الصحابة ، وهم يشنعون بهذا .

وأما قول سفيان ، وداود : فوهم منهما ; لأن الله - تعالى - لم يقل : حاضري مكة ، وإنما قال تعالى : { حاضري المسجد الحرام } فسقطت مراعاة مكة هاهنا ، [ ص: 149 ] وصح أن المراعى هاهنا إنما هو المسجد الحرام فقط ، فإذ ذلك كذلك فواجب أن نطلب مراد الله تعالى بقوله : { حاضري المسجد الحرام } لنعرف من ألزمه الله تعالى الهدي أو الصوم - إن تمتع - ممن لم يلزمه الله - تعالى - ذلك ؟ فنظرنا فوجدنا لفظة " المسجد الحرام " لا تخلو من أحد ثلاثة وجوه لا رابع لها : إما أن يكون الله - تعالى - أراد الكعبة فقط ، أو ما أحاطت به جدران المسجد فقط ، أم أراد الحرم كله ; لأنه لا يقع اسم " مسجد حرام " إلا على هذه الوجوه فقط .

فبطل أن يكون الله تعالى أراد الكعبة فقط ; لأنه لو كان ذلك لكان لا يسقط الهدي إلا عمن أهله في الكعبة وهذا معدوم وغير موجود .

وبطل أن يكون - عز وجل - أراد ما أحاطت به جدران المسجد الحرام فقط ; لأن المسجد الحرام قد زيد فيه مرة بعد مرة فكان لا يكون هذا الحكم ينتقل ولا يثبت .

وأيضا فكان لا يكون هذا الحكم إلا لمن أهله في المسجد الحرام ، وهذا معدوم غير موجود ، فإذ قد بطل هذان الوجهان فقد صح الثالث إذ لم يبق غيره .

وأيضا فإنه إذا كان اسم المسجد الحرام يقع على الحرم كله فغير جائز أن يخص بهذا الحكم بعض ما يقع عليه هذا الاسم دون سائر ما يقع عليه بلا برهان .

وأيضا فإن الله - تعالى - قد بين علينا فقال : { يريد الله ليبين لكم } فلو أراد الله - تعالى - بعض ما يقع عليه اسم المسجد الحرام دون بعض لما أهمل ذلك ولبينه ، أو لكان الله - تعالى - معنتا لنا غير مبين علينا ما ألزمنا ، ومعاذ الله من أن يظن هذا مسلم .

فصح إذ لم يبين الله - تعالى - أنه أراد بعض ما يقع عليه اسم المسجد الحرام دون بعض فلا شك في أنه - تعالى - أراد كل ما يقع عليه اسم المسجد الحرام .

وأيضا فإن الله - تعالى - يقول : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } فلم يختلفوا في أنه - تعالى - أراد الحرم كله ، فلا يجوز تخصيص ذلك بالدعوى .

وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة ، وجابر ، وحذيفة { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } . [ ص: 150 ] فصح أن الحرم مسجد لأنه من الأرض فهو كله مسجد حرام فهو المسجد الحرام بلا شك ، والحاضرون هم القاطنون غير الخارجين ; فصح أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام هم من كان أهله قاطنين الحرم ؟ فإن قيل : فإن من سكن خارجا منه بقربه هم حاضروه ؟ قلنا : هذا خطأ : وبرهان فساد هذا القول أننا نسألكم عن تحديد ذلك القرب الذي يكون من هو فيه حاضرا مما يكون من هو فيه غير حاضر ، وهذا لا سبيل إلى تفصيله إلا بدعوى كاذبة ; لأن الأرض كلها خط بعد خط إلى منقطعها .

وروينا من طريق مسلم نا علي بن حجر نا علي بن مسهر عن الأعمش عن إبراهيم بن يزيد التيمي أن أباه قال له : { سمعت أبا ذر يقول : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ عن أول مسجد وضع في الأرض ؟ فقال : المسجد الحرام } .

قال أبو محمد : فصح أنه الحرم كله بيقين لا شك فيه لأن الكعبة لم تبن في ذلك الوقت ، وإنما بناها إبراهيم ، وإسماعيل عليهما السلام ، قال - عز وجل - : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } ولم يبن المسجد حول الكعبة إلا بعد ذلك بدهر طويل .

ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لو زيد في المسجد أبدا حتى يعم به جميع الحرم يسمى مسجدا حراما ، وأنه لو زيد فيه من الحل لم يسم ما زيد فيه مسجدا حراما ، فارتفع كل إشكال ولله الحمد كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية