صفحة جزء
100 - مسألة : ولا يحل القول بالقياس في الدين ولا بالرأي لأن أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى كتابه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قد صح ، فمن رد إلى قياس وإلى تعليل يدعيه أو إلى رأي فقد خالف أمر الله تعالى المعلق بالإيمان ورد إلى غير من أمر الله تعالى بالرد إليه ، وفي هذا ما فيه . قال علي : وقول الله تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } وقوله تعالى : { تبيانا لكل شيء } وقوله تعالى { لتبين للناس ما نزل إليهم } قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } إبطال للقياس وللرأي ; لأنه لا يختلف أهل القياس والرأي أنه لا يجوز استعمالهما ما دام يوجد نص ، وقد شهد الله تعالى بأن النص لم يفرط فيه شيئا ، وأن رسوله عليه الصلاة والسلام قد بين للناس كل ما نزل إليهم ، وأن الدين قد كمل فصح أن النص قد استوفى جميع الدين ، فإذا كان ذلك كذلك فلا حاجة بأحد إلى قياس ولا إلى رأيه ولا إلى رأي غيره . ونسأل من قال بالقياس : هل كل قياس قاسه قائس حق ، أم منه حق ومنه باطل [ ص: 79 ] فإن قال كل قياس حق أحال ، لأن المقاييس تتعارض ويبطل بعضها بعضا ، ومن المحال أن يكون الشيء وضده من التحريم والتحليل حقا معا ، وليس هذا مكان نسخ ولا تخصيص ، كالأخبار المتعارضة التي ينسخ بعضها بعضا ، ويخصص بعضها بعضا . وإن قال منها حق ومنها باطل ، قيل له فعرفنا بماذا تعرف القياس الصحيح من الفاسد ، ولا سبيل لهم إلى وجود ذلك أبدا ، وإذا لم يوجد دليل على تصحيح الصحيح من القياس من الباطل منه ، فقد بطل كله وصار دعوى بلا برهان ، فإن ادعوا أن القياس قد أمر الله تعالى به سألوا أين وجدوا ذلك ، فإن قالوا : قال الله عز وجل : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } قيل لهم : إن الاعتبار ليس هو في كلام العرب الذي نزل به القرآن إلا التعجب ، قال الله عز وجل : { وإن لكم في الأنعام لعبرة } أي لعجبا . وقال عز وجل : { لقد كان في قصصهم عبرة } أي عجب ، ومن العجيب أن يكون معنى الاعتبار القياس ، ويقول الله تعالى لنا قيسوا ، ثم لا يبين لنا ماذا نقيس ولا كيف نقيس ولا على ماذا نقيس . هذا ما لا سبيل إليه لأنه ليس في وسع أحد أن يعلم شيئا من الدين إلا بتعليم الله تعالى له إياه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فإن ذكروا أحاديث وآيات فيها تشبيه شيء بشيء ، وأن الله قضى وحكم بأمر كذا من أجل أمر كذا ، قلنا لهم : كل ما قاله الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك فهو حق لا يحل لأحد خلافه ، وهو نص به نقول : وكل ما تريدون أن تشبهوه في الدين وأن تعللوه مما لم ينص عليه الله تعالى ولا رسوله عليه الصلاة والسلام فهو باطل ولا بد وشرع لم يأذن الله تعالى به ، وهذا يبطل عليهم تهويلهم بذكر آية جزاء الصيد و { أرأيت لو مضمضت } و { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } . وكل آية وحديث موهوا بإيراده هو مع ذلك حجة عليهم على ما قد بيناه في كتاب ( الإحكام لأصول الأحكام ) وفي كتاب النكت وفي كتاب الدرة وفي كتاب النبذة قال علي : وقد عارضناهم في كل قياس قاسوه بقياس مثله وأوضح منه على أصولهم لنريهم فساد القياس جملة ، فموه منهم مموهون بأن قالوا : أنتم دأبا تبطلون القياس بالقياس ، وهذا منكم رجوع إلى القياس واحتجاج به ، وأنتم في ذلك بمنزلة المحتج على غيره بحجة العقل ليبطل حجة العقل وبدليل من النظر ليبطل به النظر قال علي : فقلنا هذا شغب سهل إفساده ولله الحمد ، ونحن لم نحتج بالقياس [ ص: 80 ] في إبطال القياس ، ومعاذ الله من هذا ، لكن أريناكم أن أصلكم الذي أثبتموه من تصحيح القياس يشهد بفساد جميع قياساتكم . ولا قول أظهر باطلا من قول أكذب نفسه . وقد نص تعالى على هذا . فقال تعالى : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم } فليس هذا تصحيحا لقولهم إنهم أبناء الله وأحباؤه . ولكن إلزام لهم ما يفسد به قولهم ولسنا في ذلك كمن ذكرتم ممن يحتج في إبطال حجة العقل بحجة العقل . لكن فاعل ذلك مصحح لقضيته العقلية التي يحتج بها فظهر تناقضه من قريب . ولا حجة له غيرها فقد ظهر بطلان قوله . وأما نحن فلم نحتج قط في إبطال القياس بقياس نصححه . لكن نبطل القياس بالنصوص وببراهين العقل . ثم نزيد بيانا في فساده منه نفسه بأن نري تناقضه جملة فقط والقياس الذي نعارض به قياسكم . نحن نقر بفساده وفساد قياسكم الذي هو مثله أو أضعف منه . كما نحتج على أهل كل مقالة من معتزلة ورافضة ومرجئة وخوارج ويهود ونصارى ودهرية من أقوالهم التي يشهدون بصحتها . فنريهم تفاسدها وتناقضها . وأنتم تحتجون عليهم معنا بذلك . ولسنا نحن ولا أنتم ممن يقر بتلك الأقوال التي نحتج عليهم بها ، بل هي عندنا في غاية البطلان والفساد . وكاحتجاجنا على اليهود والنصارى من كتبهم التي بأيديهم . ونحن لا نصححها . بل نقول إنها لمحرفة مبدلة . لكن لنريهم تناقض أصولهم وفروعهم . لا سيما وجميع أصحاب القياس مختلفون في قياساتهم . لا تكاد توجد مسألة إلا وكل طائفة منهم تأتي بقياس تدعي صحته تعارض به قياس الأخرى . وهم كلهم مقرون مجمعون على أنه ليس كل قياس صحيحا ولا كل رأي حقا . فقلنا لهم : فهاتوا حد القياس الصحيح والرأي الصحيح الذي يتميزان به من القياس الفاسد والرأي الفاسد . وهاتوا حد العلة الصحيحة التي لا تقيسون إلا عليها من العلة الفاسدة فلجلجوا . قال علي : وهذا مكان إن زم عليهم فيه ظهر فساد قولهم جملة . ولم يكن لهم إلى جواب يفهم سبيل أبدا . وبالله تعالى التوفيق .

فإن أتوا في ذلك بنص قلنا النص حق والذي تريدون أنتم إضافته إلى النص بآرائكم باطل وفي هذا خولفتم . وهكذا أبدا . فإن ادعوا أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على القول بالقياس قيل لهم : كذبتم بل الحق أنهم كلهم أجمعوا على إبطاله . [ ص: 81 ] برهان كذبهم أنه لا سبيل لهم إلى وجود حديث عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه أطلق الأمر بالقول بالقياس أبدا إلا في الرسالة المكذوبة الموضوعة على عمر رضي الله عنه فإن فيها : واعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور وهذه رسالة لم يروها إلا عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه وهو ساقط بلا خلاف وأبوه أسقط منه أو هو مثله في السقوط ، فكيف وفي هذه الرسالة نفسها أشياء خالفوا فيها عمر رضي الله عنه ومنها قوله فيها : والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو نسب . وهم لا يقولون بهذا - يعني جميع الحاضرين من أصحاب القياس - حنفيهم وشافعيهم ومالكيهم ، وإن كان قول عمر - لو صح في تلك الرسالة - في القياس حجة ، فقوله في أن المسلمين عدول كلهم إلا مجلودا في حد حجة ، وإن لم يكن قوله في ذلك حجة ، فليس قوله في القياس حجة ، لو صح فكيف ولم يصح . وأما برهان صحة قولنا في إجماع الصحابة رضي الله عنهم على إبطال القياس فإنه لا يختلف اثنان في أن جميع الصحابة مصدقون بالقرآن وفيه { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } وفيه : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فمن الباطل المحال أن يكون الصحابة رضي الله عنهم يعلمون هذا ويؤمنون به ، ثم يردون عند التنازع إلى قياس أو رأي . هذا ما لا يظنه بهم ذو عقل ، فكيف وقد ثبت عن الصديق رضي الله عنه أنه قال : أي أرض تقلني أو أي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم ، وصح عن الفاروق رضي الله عنه أنه قال : اتهموا الرأي على الدين وإن الرأي منا هو الظن والتكلف ، وعن عثمان رضي الله عنه في فتيا أفتى بها إنما كان [ ص: 82 ] رأيا رأيته فمن شاء أخذ ومن شاء تركه . وعن علي رضي الله عنه : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه . وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه : أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار وعن ابن مسعود رضي الله عنه : سأقول فيها بجهد رأيي ، فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريء . وعن معاذ بن جبل في حديث : يبتدع كلاما ليس من كتاب الله عز وجل ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإياكم وإياه فإنه بدعة وضلالة . وعلى هذا النحو كل رأي روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم لا على أنه إلزام ولا أنه حق ، لكنه إشارة بعفو أو صلح أو تورع فقط لا على سبيل الإيجاب . وحديث معاذ الذي فيه أجتهد رأيي ولا آلو ، لا يصح لأنه لم يروه أحد إلا الحارث بن عمرو وهو مجهول لا ندري من هو عن رجال من أهل حمص لم يسمهم عن معاذ . وقد تقصينا أسانيد هذه الأحاديث كلها في كتابنا المذكور ولله تعالى الحمد . حدثنا أحمد بن قاسم حدثنا أبو قاسم بن محمد حدثنا جدي قاسم بن أصبغ أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي حدثنا نعيم بن حماد أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي عن حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال } .

قال علي : والشريعة كلها إما فرض يعصي من تركه . وإما حرام يعصي من فعله وإما مباح لا يعصي من فعله ولا من تركه . وهذا المباح ينقسم ثلاثة أقسام : إما مندوب إليه يؤجر من فعله ولا يعصي من تركه . وإما مكروه يؤجر من تركه ولا يعصي من [ ص: 83 ] فعله . وإما مطلق لا يؤجر من فعله ولا من تركه ولا يعصي من فعله ولا من تركه .

وقال عز وجل : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } وقال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } فصح أن كل شيء حلال إلا ما فصل تحريمه في القرآن أو السنة .

حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد حدثنا أحمد بن علي حدثنا مسلم بن الحجاج أخبرني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون حدثنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال { أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى أعادها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ، ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه } قال علي : فجمع هذا الحديث جميع أحكام الدين ، أولها عن آخرها ، ففيه أن ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح وليس حراما ولا فرضا ، وأن ما أمر به فهو فرض ، وما نهى عنه فهو حرام ، وأن ما أمرنا به فإنما يلزمنا منه ما نستطيع فقط ، وأن نفعل مرة واحدة تؤدي ما ألزمنا ، ولا يلزمنا تكراره ، فأي حاجة بأحد إلى قياس أو رأي مع هذا البيان الواضح ، ونحمد الله على عظم نعمه .

فإن قال قائل : لا يجوز إبطال القول بالقياس إلا حتى توجدونا تحريم القول به نصا في القرآن . قلنا لهم : قد أوجدنا لكم البرهان نصا بذلك وبأن لا يرد التنازع إلا إلى القرآن والسنة فقط ، وقال تعالى : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } وقال تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } والقياس ضرب أمثال في الدين لله تعالى . ثم يقال لهم : إن [ ص: 84 ] عارضكم الروافض بمثل هذا فقالوا لكم : لا يجوز القول بإبطال الإلهام ولا بإبطال اتباع الإمام إلا حتى توجدوا لنا تحريم ذلك نصا ، أو قال لكم ذلك أهل كل مقالة في تقليد كل إنسان بعينه . بماذا تنفصلون ؟ بل الحق أنه لا يحل أن يقال على الله تعالى أنه حرم أو حلل أو أوجب إلا بنص فقط . وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية