صفحة جزء
957 - مسألة :

وتقسم الغنائم كما هي بالقيمة ولا تباع ، لأنه لم يأت نص ببيعها ، وتعجل القسمة في دار الحرب ، وتقسم الأرض وتخمس ، كسائر الغنائم ، ولا فرق ، فإن طابت نفوس جميع أهل العسكر على تركها أوقفها الإمام حينئذ للمسلمين وإلا فلا ، ومن أسلم نصيبه كان من لم يسلم على حقه ، لا يجوز غير ذلك - وهو قول الشافعي ، وأبي سليمان .

وقال مالك : تباع الغنيمة وتقسم أثمانها وتوقف الأرض ولا تقسم ولا تكون ملكا لأحد .

وقال أبو حنيفة : الإمام مخير إن شاء قسمها وإن شاء أوقفها ، فإن أوقفها فهي ملك للكفار الذين كانت لهم ، ولا تقسم الغنائم إلا بعد الخروج من دار الحرب . قال أبو محمد : يبين ما قلنا قول الله تعالى : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } ولم يقل من أثمان ما غنمتم .

ومن طريق البخاري نا مسدد نا أبو الأحوص نا سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة بن رافع عن أبيه عن جده رافع بن خديج { أنهم أصابوا غنائم فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فعدل بعيرا بعشر شياه } . [ ص: 409 ] فصح أنه عليه السلام إنما قسم أعيان الغنيمة .

وأيضا فإن حقهم إنما هو فيما غنموا ، فبيع حقوقهم وأموالهم بغير رضا من جميعهم أولهم عن آخرهم لا يحل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

فإن رضي الجيش كلهم بالبيع إلا واحدا فله ذلك ويعطى حقه من عين الغنيمة ، ويباع إن أراد البيع قال تعالى : { لا تكسب كل نفس إلا عليها } .

وبهذا جاءت الآثار في حنين ، وبدر ، وغيرهما ، كقول علي : إنه وقع لي شارف من المغنم ، وكوقوع جويرية أم المؤمنين في سهم ثابت بن قيس بن الشماس ، وغير ذلك كثير ، وكذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم كقول ابن عمر ، وقعت في سهمي يوم جلولاء جارية وهو قول سعيد بن المسيب - وغيره .

ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : أكره بيع الخمس حتى يقسم ، ولا نعرف لهم مخالفا من الصحابة أصلا

وأما تعجيل القسمة فإن مطل ذي الحق لحقه ظلم ، وتعجيل إعطاء كل ذي حق حقه فرض ، والحنفيون يقولون : من مات من أهل الجيش قبل الخروج إلى دار الإسلام ، أو قتل في الحرب فلا سهم له .

قال : فلو خرجوا عن دار الحرب فلحق بهم مدد قبل خروجهم إلى دار الإسلام فحقهم معهم في الغنيمة - وهذا ظلم لا خفاء به ، وقول في غاية الفساد بغير برهان ; بل كل من شهد شيئا من القتال الذي كان سبب الغنيمة ، أو شهد شيئا من جمع الغنيمة فحقه فيها يورث عنه ، ومن لم يشهد من ذلك شيئا فلا حق له فيها - فهل سمع بظلم أقبح من منع من قاتل وغنم وإعطاء من لم يقاتل ولا غنم ؟ وأما الأرض ، فإن الصحابة اختلفوا . فروينا أن ابن الزبير ، وبلالا ، وغيرهم دعوا إلى قسمة الأرض ، وأن عمر ، وعليا ، ومعاذا ، وأبا عبيدة ، رأوا إبقاءها رأيا منهم ، وإذ تنازعوا فالمردود إليه هو ما افترض الله تعالى الرد إليه إذ يقول : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }

فوجدنا من قلد عمر في ذلك يذكر ما رويناه من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن [ ص: 410 ] أبيه قال : قال عمر : لولا آخر المسلمين ما افتتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر . قال أبو محمد : وهذا أعظم حجة عليهم لوجوه . أولها : إقرار عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم خيبر . والثاني : أنه قد أخبر رضي الله عنه أنه إنما فعل ذلك نظرا لآخر المسلمين ، والذي لا شك فيه [ فهو ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أنظر لأول المسلمين ولآخرهم من عمر ، فما رأى هذا الرأي ; بل أبقى لآخر المسلمين ما أبقى لأولهم الجهاد في سبيل الله ، فإما الغنيمة وإما الشهادة ، وأبقى لهم مواريث موتاهم ، والتجارة ، والماشية ، والحرث . والثالث : أنه قد خالف عمر الزبير ، وليس بعضهم أحق بالاتباع من بعض ; فحتى لو صح عن عمر رضي الله عنه ما ظنوه به لما كان لهم فيه حجة ، ولكان رأيا منه غيره خير منه ، وهو ما أخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف وعمر قوله كقولنا في هذه المسألة ؟ كما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى .

وهذا الخبر من عمر يكذب كل ما موهوا به من أحاديث مكذوبة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقسم خيبر كلها ، فهم دأبا يسعون في تكذيب قول عمر نصرا لرأيهم الفاسد وظنهم الكاذب .

وقد روينا عن عمر أنه قال : إن عشت إلى قابل لا تفتح قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر - ، فهذا رجوع من عمر إلى القسمة .

واحتجوا بخبر صحيح رويناه من طريق أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { منعت العراق درهمها وقفيزها ، ومنعت الشام مدها ودينارها ، ومنعت مصر إردبها ودينارها وعدتم كما بدأتم } .

قالوا : فهذا هو الخراج المضروب على الأرض ، وهو يوجب إيقافها .

قال أبو محمد : وهذا تحريف منهم للخبر بالباطل وادعاء ما ليس في الخبر بلا نص ولا دليل ، ولا يخلو هذا الخبر من أحد وجهين فقط ، أو قد يجمعهما جميعا بظاهر لفظه .

أحدهما : أنه أخبر صلى الله عليه وسلم عن الجزية المضروبة على أهل هذه البلاد إذا فتحت - [ ص: 411 ] وهو قولنا - لأن الجزية بلا شك واجبة بنص القرآن ، ولا نص يوجب الخراج الذي يدعون .

والثاني : أنه إنذار منه عليه السلام بسوء العاقبة في آخر الأمر ، وأن المسلمين سيمنعون حقوقهم في هذه البلاد ويعودون كما بدءوا ، وهذا أيضا حق قد ظهر - وإنا لله وإنا إليه راجعون - فعاد هذا الخبر حجة عليهم

قال أبو محمد : فإذ لا دليل على صحة قولهم فلنذكر الآن البراهين على صحة قولنا . قال الله تعالى : { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } فسوى تعالى بين كل ذلك ولم يفرق ، فلا يجوز أن يفرق بين حكم ما صار إلينا من أهل الحرب من مال ، أو أرض بنص القرآن ، وقال تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى } .

وروينا من طريق البخاري نا عبد الله بن محمد هو المسندي نا معاوية بن عمرو نا أبو إسحاق هو الفزاري - عن مالك بن أنس حدثني ثور عن سالم مولى ابن مطيع " أنه سمع أبا هريرة يقول : افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهبا ، ولا فضة إنما غنمنا الإبل ، والبقر ، والمتاع ، والحوائط " .

فصح أن الحوائط ، وهي : الضياع ، والبساتين : مغنومة كسائر المتاع فهي مخمسة بنص القرآن ، والمخمس مقسوم بلا خلاف

روينا من طريق أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، كلاهما عن عبد الرزاق نا معمر عن همام بن منبه نا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أيما قرية أتيتموها ، وأقمتم فيها فسهمكم فيها ، وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله ، ثم هي لكم } وهذا نص جلي لا محيص عنه .

وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أرض بني قريظة ، وخيبر . [ ص: 412 ] ثم العجب كله : أن مالكا قلد هاهنا عمر ، ثم فيما ذكرتم وقف ، فلم يخبر كيف يعمل في خراجها ، وأقر أنه لا يدري فعل عمر في ذلك ، فهل في الأرض أعجب من جهالة تجعل حجة ؟

وأما أبو حنيفة فأخذ في ذلك برواية غير قوية جاءت عن عمر ، وترك سائر ما روي عنه ، وتحكموا في الخطأ بلا برهان ، وقد تقصينا ذلك في كتاب الإيصال - والله المستعان [ ولله تعالى الحمد ] فكيف والرواية عن عمر الصحيحة هي قولنا ؟ كما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور نا محمد بن عيسى بن رفاعة نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد نا هشيم نا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : كانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية فجعل لهم عمر ربع السواد فأخذوا سنتين ، أو ثلاثا ، فوفد عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب ومعه جرير بن عبد الله ، فقال عمر : يا جرير لولا أني قاسم مسئول لكنتم على ما جعل لكم ، وأرى الناس قد كثروا فأرى أن ترده عليهم . ففعل جرير ذلك ، فقالت أم كرز البجلية : يا أمير المؤمنين إن أبي هلك وسهمه ثابت في السواد وإني لم أسلم . فقال لها عمر : يا أم كرز إن قومك قد صنعوا ما قد علمت ، فقالت : إن كانوا صنعوا ما صنعوا فإني لست أسلم حتى تحملني على ناقة ذلول عليها قطيفة حمراء وتملأ كفي ذهبا . ففعل عمر ذلك ، فكانت الذهب نحو ثمانين دينارا ، فهذا أصح ما جاء عن عمر في ذلك - وهو قولنا ، فإنه لم يوقف حتى استطاب نفوس الغانمين وورثة من مات منهم ; وهذا الذي لا يجوز أن يظن بعمر غيره ، ورب قضية خالفوا فيها عمر مما قد ذكرناه قبل من تخميسه السلب وإمضائه سائره للقاتل وغير ذلك ، ومن عجائبهم إسقاطهم الجزية عن أهل الخراج ؟ وقد روينا من طريق ابن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن محمد بن قيس عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي عن عمر ، وعلي أنهما قالا : إذا أسلم وله أرض وضعنا عنه الجزية وأخذنا منه خراجها .

حدثنا ابن أبي شيبة عن هشيم عن حصين أن رجلين من أهل أليس أسلما فكتب [ ص: 413 ] عمر إلى عثمان بن حنيف أن يرفع الجزية عن رءوسهما وأن يأخذ الطسق من أرضيهما .

حدثنا ابن أبي شيبة نا وكيع نا سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن دهقانة من نهر الملك أسلمت فقال عمر : ادفعوا إليها أرضها تؤدي عنها الخراج . نا ابن أبي شيبة نا وكيع عن سفيان عن جابر عن الشعبي أن الرفيل دهقان النهرين أسلم ففرض له عمر في ألفين ، ووضع عن رأسه الجزية ، وألزمه خراج أرضه .

فإن قيل : حديث ابن عون مرسل ؟ قلنا : سبحان الله وإذ روي المرسل عن معاذ في اجتهاد الرأي كان حجة والآن ليس بحجة ، ولا يعرف لمن ذكرنا مخالف من الصحابة .

التالي السابق


الخدمات العلمية