صفحة جزء
واعلم أن مصارف العشر والزكاة ما يتلى في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } الآية وللناس كلام في الفرق بين الفقير والمسكين فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن الفقير هو الذي لا يسأل والمسكين هو الذي يسأل قال الله تعالى في صفة الفقراء { لا يسألون الناس إلحافا } قيل لا إلحافا ، ولا غير إلحاف وفي المسكين قال الله تعالى { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } وقد جاء يسأل وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن الفقير هو الذي يسأل ويظهر افتقاره وحاجته إلى الناس قال الله تعالى { وأنتم الفقراء } والمسكين هو الذي به زمانة لا يسأل ، ولا يعطى له قال الله تعالى : { ، أو مسكينا ذا متربة } أي لاصقا بالتراب من الجوع والعري . فالحاصل أن المذهب عندنا أن المسكين أسوأ حالا من الفقير وعند الشافعي رحمه الله تعالى الفقير أسوأ حالا من المسكين وبين أهل اللغة فيه اختلاف ومن قال بأن المسكين أسوأ حالا قال الفقير الذي يملك شيئا ولكن لا يغنيه قال الراعي

أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد

والمسكين من لا يملك شيئا ومن قال الفقير أسوأ حالا من المسكين قال : المسكين من يملك مالا يغنيه قال الله تعالى { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } وقال الراجز [ ص: 9 ]

هل لك في أجر عظيم تؤجره     تغيث مسكينا كثيرا عسكره
عشر شياه سمعه وبصره

.

والفقير الذي لا يملك شيئا مشتق من انكسار فقار الظهر ، والحديث يشهد لهذا ، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين } وفائدة هذه الخلاف إنما تظهر في الوصايا والأوقاف أما الزكاة فيجوز صرفها إلى صنف واحد عندنا فلا يظهر هذا الخلاف . والعاملين عليها ، وهم الذين يستعملهم الإمام على جمع الصدقات ويعطيهم مما يجمعون كفايتهم وكفاية أعوانهم ، ولا يقدر ذلك بالثمن عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى ; لأنهم لما فرغوا أنفسهم لعمل الفقراء كانت كفايتهم في مالهم ، ولهذا يأخذون مع الغنى ، ولو هلك ما جمعوه قبل أن يأخذوا منه شيئا سقط حقهم كالمضارب إذا هلك مال المضاربة في يده بعد التصرف ، وكانت الزكاة مجزية عن المؤدين ; لأنهم نائبون عن الفقراء بالقبض . وأما المؤلفة قلوبهم فكانوا قوما من رؤساء العرب كأبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس وكان يعطيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرض الله سهما من الصدقة يؤلفهم به على الإسلام فقيل كانوا قد أسلموا وقيل كانوا وعدوا أن يسلموا فإن قيل كيف يجوز أن يقال بأنه يصرف إليهم وهم كفار قلنا الجهاد واجب على الفقراء من المسلمين والأغنياء لدفع شر المشركين فكان يدفع إليهم جزءا من مال الفقراء لدفع شرهم وذلك قائم مقام الجهاد في ذلك الوقت ، ثم سقط ذلك السهم بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا قال الشعبي انقضى الرشا بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أنهم في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه استبذلوا الخط لنصيبهم فبذل لهم وجاءوا إلى عمر فاستبذلوا خطه فأبى ومزق خط أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقال : هذا شيء كان يعطيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليفا لكم وأما اليوم فقد أعز الله الدين فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف فعادوا إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقالوا له : أنت الخليفة أم عمر بذلت لنا الخط ومزقه عمر فقال : هو إن شاء ولم يخالفه .

وأما قوله تعالى { وفي الرقاب } فالمراد إعانة المكاتبين على أداء بدل الكتابة بصرف الصدقة إليهم عندنا . وقال مالك رحمه الله تعالى المراد أن يشتري بالصدقة عبدا فيعتقه ، وهذا فاسد ; لأن التمليك لا بد منه ، وما يأخذه بائع العبد عوض عن ملكه ، والعبد يعتق على ملك المولى فلا يوجد التمليك [ ص: 10 ] والدليل عليه ما روي { أن رجلا قال أي رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة فقال : فك الرقبة وأعتق النسمة قال : أو ليسا سواء يا رسول الله قال : لا ، فك الرقبة أن تعين في عتقه } . وأما قوله تعالى { والغارمين } فهم المديونون الذين لا يملكون نصابا فاضلا عن دينهم . وقال الشافعي رحمه الله تعالى : المراد من تحمل غرامة في إصلاح ذات البين وإطفاء الثائرة بين القبيلتين . وأما قوله تعالى { وفي سبيل الله } فهم فقراء الغزاة هكذا قال أبو يوسف . وقال محمد : هم فقراء الحاج المنقطع بهم . لما روي { أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمل عليه الحاج } وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول : الطاعات كلها في سبيل الله تعالى ولكن عند إطلاق هذا اللفظ المقصود بهم الغزاة عند الناس .

ولا يصرف إلى الأغنياء من الغزاة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى . واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم { لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة وذكر من جملتهم الغازي في سبيل الله تعالى } ولكنا نقول : المراد الغنى بقوة البدن والقدرة على الكسب إنما تكون بالبدن لا بملك المال بدليل الحديث الآخر { وردها في فقرائهم } . وأما ابن السبيل فهو المنقطع عن ماله لبعده منه والسبيل الطريق فكل من يكون مسافرا على الطريق يسمى ابن السبيل كمن يكون فقيرا ، أو غنيا يسمى ابن الفقر وابن الغنى ، وابن السبيل غني ملكا حتى تجب الزكاة في ماله ويؤمر بالأداء إذا وصلت يده إليه ، وهو فقير يدا حتى تصرف إليه الصدقة للحال لحاجته ، ثم هؤلاء الأصناف مصارف الصدقات لا مستحقون لها عندنا حتى يجوز الصرف إلى واحد منهم . وقال الشافعي رحمه الله تعالى : هم مستحقون لها حتى لا تجوز ما لم تصرف إلى الأصناف السبعة من كل صنف ثلاثة واستدل بالآية وبحديث { إن الله تعالى لم يرض في الصدقات بقسمة ملك مقرب ، ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها من فوق سبعة أرقعة } واعتبر أمر الشرع بأمر العباد فإن من أوصى بثلث ماله لهؤلاء الأصناف لم يجز حرمان بعضهم فكذلك في أمر الشرع .

( ولنا ) قوله تعالى { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } . وقال صلى الله عليه وسلم { لمعاذ رضي الله عنه وردها في فقرائهم } وبعث عمر رضي الله عنه بصدقة إلى بيت أهل رجل واحد هكذا نقل عن ابن عباس وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم وقد بينا أن المقصود إغناء المحتاج ، وذلك حاصل بالصرف إلى واحد ، وبه فارق أوامر العباد ; لأن المعتبر فيها اللفظ دون المعنى فقد تقع خالية عن حكمة حميدة بخلاف أوامر الشرع أما الآية فقد قال ابن عباس : [ ص: 11 ] رضي الله عنه المراد بيان المصارف فإلى أيهم انصرفت أجزأت كما أن الله تعالى أمره باستقبال الكعبة في الصلاة ، وإذا استقبل جزءا كان ممتثلا للأمر .

ألا ترى أن الله تعالى ذكر الأصناف بأوصاف تنبئ عن الحاجة فعرفنا أن المقصود سد خلة المحتاج . .

التالي السابق


الخدمات العلمية