صفحة جزء
قال ( وإن وقع في البئر بول ما يؤكل لحمه أفسده في قول أبي حنيفة [ ص: 54 ] وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - ، ولا يفسده في قول محمد ، ويتوضأ منه ما لم يغلب عليه ) .

وأصل المسألة أن بول ما يؤكل لحمه نجس عندهما طاهر عند محمد رحمه الله تعالى ، واحتج بحديث أنس رضي الله تعالى عنه { أن قوما من عرنة جاءوا إلى المدينة فأسلموا فاجتووا المدينة فاصفرت ألوانهم ، وانتفخت بطونهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها ، وألبانها } الحديث ، فلو لم يكن طاهرا لما أمرهم بشربه ، والعادة الظاهرة من أهل الحرمين بيع أبوال الإبل في القوارير من غير نكير دليل ظاهر على طهارتها ، ولهما قول النبي صلى الله عليه وسلم { استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه } ، ولما ابتلي سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه بضغطة القبر { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سببه فقال إنه كان لا يستنزه من البول } ، ولم يرد به بول نفسه فإن من لا يستنزه منه لا تجوز صلاته ، وإنما أراد أبوال الإبل عند معالجتها ، والمعنى أنه مستحيل من أحد الغذاءين إلى نتن ، وفساد فكان نجسا كالبعر . فأما حديث أنس رضي الله تعالى عنه فقد ذكر قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه { أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل } ، ولم يذكر الأبوال ، وإنما ذكره في حديث حميد عن أنس رضي الله تعالى عنهما ، والحديث حكاية حال فإذا دار بين أن يكون حجة ، أو لا يكون حجة سقط الاحتجاج به ، ثم نقول خصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ; لأنه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه ، ولا يوجد مثله في زماننا ، وهو كما { خص الزبير رضي الله تعالى عنه بلبس الحرير لحكة كانت به } ، وهي مجاز عن القمل فإنه كان كثير القمل ، أو ; لأنهم كانوا كفارا في علم الله تعالى ، ورسوله علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الردة ، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر في النجس .

إذا عرفنا هذا فنقول : إذا وقع في الماء فعند محمد رحمه الله هو طاهر فلا يفسد الماء حتى يجوز شربه ، ولكن إذا غلب على الماء لم يتوضأ به كسائر الطاهرات إذا غلبت على الماء ، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله هو نجس فكان مفسدا للماء ، والبئر ، والإناء فيه سواء ، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجوز شربه للتداوي ، وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم { إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم } ، وعند محمد يجوز شربه للتداوي ، وغيره ; لأنه طاهر عنده ، وعند أبي يوسف يجوز شربه للتداوي لا غير عملا بحديث العرنيين ، ولا يجوز لغيره ، ولو أصاب الثوب لم ينجسه عند محمد رحمه الله تعالى حتى تجوز الصلاة فيه ، وإن امتلأ الثوب منه ، وعلى [ ص: 55 ] قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - ينجس الثوب إلا أنه يجوز الصلاة فيه ما لم يكن كثيرا فاحشا ; لأنه مختلف في نجاسته ، وفيه بلوى لمن يعالجها فخفت نجاسته لهذين المعنيين فكان التقدير بالكثير الفاحش ، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى الكثير الفاحش في الثوب الربع فصاعدا قيل أراد به ربع الموضع الذي أصابه من ذيل ، أو غيره ، وقيل أراد به ربع جميع الثوب ، وهو الصحيح ، وهذا ; لأن الربع ينزل منزلة الكمال بدليل أن المسح بربع الرأس كالمسح بجميعه ، وعن أبي يوسف في روايته الكثير الفاحش شبر في شبر ، وفي رواية ذراع في ذراع ، وعن محمد رحمه الله تعالى فيما يقدر الكثير الفاحش على قوله كالأرواث ، وغيره أنه قدر موضع القدمين ، وهذا قريب من شبر في شبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية