صفحة جزء
[ ص: 59 ] باب الهبة في النكاح ( قال : ) رضي الله عنه النكاح بلفظة الهبة والصدقة والتمليك صحح في قول علمائنا ، وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى : لا يصح إلا بلفظة النكاح والتزويج ، واستدل بقوله تعالى : { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } فقد جعل النكاح بلفظة الهبة خالصا للرسول صلوات الله عليه دون غيره من المؤمنين ، وقال : صلى الله عليه وسلم { أوصيكم بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان اتخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله } ، وكلمة الله التي أمرنا بالاستحلال بها : الإنكاح والتزويج ، وفي قوله : { اتخذتموهن بأمانة الله } إشارة إلى أن هذا العقد غير معقود لمقصود إثبات الملك ، ولهذا انعقد بلفظة الإنكاح والتزويج ، وهما لا يدلان على الملك ، ألا ترى أنه لا ينعقد بهما شيء من عقود التمليكات ، ولكن المقصود بالنكاح ما لا يحصى من مصالح الدين والدنيا ، وألفاظ التمليك لا تدل على شيء من ذلك فلا ينعقد بها هذا العقد ، وهو معنى قولهم هذا عقد خاص فلا ينعقد بغيره ، ألا ترى أن الشهادة لما شرعت بلفظ خاص لمعنى ، وهو أنها موجبة بنفسها كما أشار الله تعالى إليه في قوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } لم يقم لفظ آخر مقام هذا اللفظ حتى لو قال الشاهد : أحلف ; لا يصح أداء الشهادة به ، والدليل عليه أن التزويج هو التعليق ، والنكاح هو الضم ، وليس فيهما ما يدل على الملك ، وليس في التمليك معنى التلفيق والضم ، فلا ينعقد هذا اللفظ بألفاظ التمليك ، وكيف ينعقد النكاح بهذا اللفظ ، والفرقة تقع به ؟ إذا قال لامرأته : وهبت نفسك منك كان بمنزلة لفظ الطلاق ، مع أن النكاح لا يصح إلا بشهود ، وعند ذكر لفظ الهبة الشهود لا يعرفون أنهما أرادا النكاح ، وحجتنا في ذلك قوله تعالى { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } صلى الله عليه وسلم معناه : إن أراد النبي أن يستنكحها فوهبت نفسها منه فقد جعل الله تعالى الهبة جوابا للاستنكاح ، والاستنكاح طلب النكاح ، وأما قوله : { خالصة لك } فقد قيل : المراد به المرأة يعني أنها خالصة لك فلا تحل لأحد بعدك حتى يكون شريكك في الفراش من حيث الزمان كما قال الله تعالى في آية أخرى : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } ، والأصح أن المراد هبة خالصة ; لأن قوله : { إن وهبت } يقتضي هبة ، والكناية تنصرف إلى الثابت بمقتضى الكلام فيكون المعنى هبة خالصة لا يلزمك مهر لها ، وهذا لك دون المؤمنين .

ألا ترى أنه قال : [ ص: 60 ] { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } يعني من الابتغاء بالمال ، والدليل عليه أنه قابل الموهوبة نفسها بالمؤتى مهرها بقوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } ، وكذلك قال في آخر الآية : { لكي لا يكون عليك حرج } ، وهو نص على أن الخصوصية ; لدفع الحرج عنه ، وذلك ليس في اللفظ إذ لا حرج عليه في ذكر لفظ النكاح ، إنما الحرج في إبقاء المهر مع أن المذكور لفظة الهبة في جانب المرأة لا في جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرفنا أن المراد الخصوصية بجوار نكاحه بغير مهر .

وإمامنا في المسألة علي رضوان الله عليه فإن رجلا وهب ابنته لعبيد الله بن الحر بشهادة شاهدين فأجاز ذلك علي رضي الله تعالى عنه ، والمعنى فيه : أن هذا ملك يستباح به الوطء فينعقد بلفظ الهبة ، والتمليك كملك اليمين ، وهذا كلام على سبيل الاستدلال لا على سبيل المقايسة ; لأن صلاحية اللفظ كناية عن غيره ، وليس بحكم شرعي ; ليعرف بالقياس بل طريق معرفة ذلك ، النظر في كلام أهل اللغة ، وهذه إشارة إلى مذهبهم في الاستعارة ; لأنهم يستعيرون اللفظ لغيره ; لاتصال بينهما من حيث السببية كما قال الله تعالى : { إني أراني أعصر خمرا } أي : عنبا بالعصر يصير خمرا ، ويسمي المطر سماء ; لأنه ينزل من السماء ، وما يكون من علو فالعرب تسميه سماء ، وكذلك النبات يسمى سماء ; لأنه ينبت بسبب المطر فإنهم يقولون : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم ، وإذا ثبت هذا فنقول : هذه الألفاظ سبب لملك الرقبة ، وملك الرقبة في محل ملك المتعة موجب لملك المتعة فللاتصال بينهما سببا يصلح هذا اللفظ كناية عن ملك المتعة ، والمقصود من النكاح ملك المتعة دون سواه من المقاصد ، ألا ترى أنه يختص به الزوج حتى يجب البدل عليه ، وسائر المقاصد يحصل لهما ، وإن ملك الطلاق الرافع لهذا الملك يختص به الزوج فعرفنا أن المقصود هو الملك دون ما توهمه الخصم .

وإنما انعقد بلفظ النكاح ، والتزويج ; لأنهما لفظان جعلا علما لهذا العقد بالنص ، واعتبار المعنى في غير المنصوص عليه ، فأما في المنصوص لا يعتبر المعنى مع أنهما لفظان لإيجاب ملك ما ليس بمال فلهذا لا تأثير لهما في إثبات ملك المال ، ومتى صار اللفظ كناية عن غيره سقط اعتبار حقيقته ، وقام مقام اللفظ الذي جعل كناية عنه ، والشرط سماع الشاهدين اللفظ الذي ينعقد به النكاح فأما وقوفهما على مقصود المتعاقدين ليس بشرط مع أنه إذا قال : وهبت ابنتي منك بصداق كذا ، فالشهود يعلمون أنه أراد النكاح ، وكما أن الفرقة تحصل بلفظ الهبة تحصل بلفظ الزوجية إذا قال لامرأته : تزوجي ونوى به الطلاق يقع ، ولم يدل ذلك على أنه لا ينعقد به [ ص: 61 ] النكاح .

التالي السابق


الخدمات العلمية