صفحة جزء
( قال ) : وإن قال : فلانة بنت فلان طالق فسمى امرأته ، ونسبها إلى غير أبيها لم تطلق امرأته ; لأنه ما أوقع الطلاق عليها فإنه ما أضافها إلى نفسه بالنكاح ، وما أشار إليها ، ولا عرفها بذكر نسبها ، إنما ذكر امرأة أخرى ، وأوقع الطلاق عليها بما ذكر من الاسم ، والنسب فلا يتناول ذلك امرأته كما لو أشار إلى أجنبية ، وقال : أنت طالق لم تطلق امرأته ، وكذلك لو قال : فلانة الهمدانية طالق [ ص: 148 ] وامرأته تميمية لم تطلق ، وكذلك لو قال : فلانة العمياء طالق ، وامرأته صحيحة العينين ، فإن نوى امرأته بهذا كله طلقت ; لأنه قصد الإيقاع عليها بذكر اسمها ، وما زاد على ذلك فضل من الكلام ، وفي هذا تشديد عليه فتعمل نيته .

وإن كان اسم امرأته زينب ، فقال : فلانة طالق يعني امرأته ، وإنما قال : فلانة ، ولم يسمها فالطلاق واقع عليها ، وإن لم يعنها لم تطلق ; لأنه أوقع الطلاق بذكر مطلق الاسم ، ومطلق الاسم كما يتناولها يتناول غيرها فكان هذا بمنزلة الإيقاع بلفظ الكناية فينوي في ذلك ; لكون اللفظ مبهما محتملا ، وإذا شهد شاهد على تطليقتين ، وشاهد على ثلاث ، والزوج يجحد ذلك ، أو شهد شاهد بتطليقة ، والآخر بتطليقتين ، أو شاهد بتطليقة ، والآخر بثلاث لم تقبل هذه الشهادة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما وابن أبي ليلى تقبل على الأقل ; لأن المعتبر اتفاق الشاهدين في المعنى دون اللفظ حتى لو شهد أحدهما بالهبة ، والآخر بالتخلي تقبل ، وقد اتفق الشاهدان على الأقل ; لأن الأقل موجود في الأكثر فصار كما لو شهد أحدهما بألف ، والآخر بألف وخمسمائة ، والمدعي يدعي الأكثر تقبل شهادتهما على الأقل ، وكذلك لو شهد أحدهما أنه قال لها : أنت طالق ، والآخر أنه قال لها : أنت طالق وطالق ، أو شهد أحدهما أنه طلقها ، والآخر أنه طلقها وضرتها تقبل شهادتهما على طلاقها ; لاتفاق الشاهدين عليه ; ولأن الموافقة كما تراعى بين الشاهدين تراعى بين الدعوى ، والشهادة .

ثم لو ادعى ألفين ، وشهد شاهدان بألف تقبل الشهادة بالاتفاق ، فكذلك إذا شهد أحد الشاهدين بألف ، والآخر بألفين ينبغي أن تقبل على الأقل وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول اختلف الشاهدان في المشهود به لفظا ومعنى فلا تقبل الشهادة كما لو قال أحدهما : إنه قال لها : أنت خلية ، والآخر : إنه قال : لها أنت برية ، وإنما قلنا ذلك ; لأن أحدهما شهد بالواحدة ، والآخر بثنتين أو بثلاث ، والواحدة أصل العدد لا تركب فيها ، والاثنان ، والثلاث اسم لعدد مركب فكانت المغايرة بينهما على سبيل المضادة ، ومن حيث إن اللفظ الواحد غير التثنية ، والجمع ، والدليل عليه أن مدعي الاثنين أو الثلاثة لا يكون مقرا بالواحد ، إذ لو كان مقرا بالواحد لكان مرتدا بالشرك بعد ذلك فينبغي أن تقبل ، ولأن التطليقتين اسم واحد ، والتطليقة كذلك ، وبزيادة حرف يتغير الاسم كما يقال : زيد وزياد ، ونصر وناصر ، وكذلك في الألف ، والألفين وإذا ثبتت المغايرة كان على كل واحد من الأمرين شاهد واحد ، فلا يتمكن القاضي من القضاء بشيء بخلاف الألف مع الألف [ ص: 149 ] وخمسمائة فإنهما اسمان أحدهما معطوف على الآخر فيحصل الاتفاق بينهما على الألف لفظا ومعنى ، وكذلك في قوله : طالق وطالق ، وفي قوله : فلانة وفلانة ، وهذا بخلاف الدعوى مع الشهادة ، فإن الاتفاق هناك في اللفظ ليس بشرط .

فأما بين الشهادتين الموافقة في اللفظ شرط ، ألا ترى أنه لو ادعى الغصب ، أو القتل وشهد شاهدان بالإقرار به تقبل ، ولو شهد أحد الشاهدين بالغصب ، والآخر بإقرار به لا تقبل ، وهذا ; لأن الشهادة تعتمد اللفظ ، ألا ترى أنها لا تقبل ما لم يقل : أشهد ، والذي يبطل مذهبهما ما ذكر في كتاب الرجوع ، لو شهد شاهدان بتطليقة ، وشاهدان بثلاث تطليقات ، وفرق القاضي بينهما قبل الدخول ، ثم رجعوا ، كان ضمان نصف الصداق على شاهدي الثلاث دون شاهدي الواحدة ، ولو اعتبر ما قالا أن الواحدة توجد في الثلاث ; لكان الضمان عليهم جميعا .

وإن شهد أحدهما أنه طلقها إن دخلت الدار ، وأنها قد دخلت وشهد الآخر أنه طلقها إن كلمت فلانا ، وأنها قد كلمت فلانا فشهادتهما باطلة ; لأن كل واحد منهما أوقع الطلاق بغير ما أوقع به صاحبه ، وإنما شهد كل واحد منهما بتعليق آخر من الزوج ، وليس على واحد من الأمرين شهادة شاهدين ، فإن شهد أحدهما أنه طلقها ثلاثا ، وشهد الآخر أنه قال لها : أنت علي حرام ينوي الثلاث فشهادتهما باطلة ; لاختلافهما في المشهود به لفظا ، وكذلك إن اختلفا في ألفاظ الكنايات كالخلية ، والبرية ; لأن هذه الألفاظ عندنا تعمل بحقائق موجباتها فيكون أحدهما شاهدا بالتخلية ، والآخر بالبراءة ، وكذلك الاختلاف في مقادير الشروط التي علق بها الطلاق ، وفي التعليق ، والإرسال ، وفي مقادير الجعل وصفاتها ، وفي اشتراطها وحذفها ، كل ذلك اختلاف في المشهود به لفظا ومعنى فيمتنع القضاء بهذه الشهادة ; لأنه ليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد وبالشاهد الواحد لا يتمكن القاضي من القضاء ، وإذا شهد أحدهما أنه قال : إن دخلت فلانة الدار فهي طالق وفلانة معها ، وشهد الآخر أنه قال : إن دخلت فلانة الدار فهي طالق وحدها ، وقد دخلت فلانة فهي طالق وحدها ; لأنهما اتفقا على أن الشرط دخولها ، واتفقا أن الجزاء طلاقها ، إنما تفرد أحدهما بزيادة جزاء معطوف على طلاقها ، فيثبت ما اتفقا عليه ، ولا يثبت ما تفرد به أحدهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية