صفحة جزء
باب طلاق المريض

( قال ) : رضي الله عنه ، وإذا طلق المريض امرأته ثلاثا ، أو واحدة بائنة ، ثم مات ، وهي في العدة ، فلا ميراث لها منه في القياس ، وهو أحد أقاويل الشافعي رضي الله عنه ، وفي الاستحسان ترث منه ، وهو قولنا ، وقال ابن أبي ليلى : وإن مات بعد انقضاء عدتها ترث منه ما لم تتزوج بزوج آخر ، وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وقال مالك رحمه الله ، وإن مات [ ص: 155 ] بعد ما تزوجت بزوج آخر ، فلها الميراث منه ، وجه القياس أن سبب الإرث انتهاء النكاح بالموت ، ولم يوجد ; لارتفاعه بالتطليقات ، والحكم لا يثبت بدون السبب كما لو كان طلقها قبل الدخول ; ولأن الميراث يستحق بالنسب تارة وبالزوجية أخرى ، ولو انقطع النسب لا يبقى استحقاق الميراث به سواء كان في صحته ، أو في مرضه فكذلك إذا انقطعت الزوجية ، ولكنا استحسنا ; لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم ، فقد روى إبراهيم رحمه الله تعالى قال : جاء عروة البارقي إلى شريح من عند عمر رضي الله تعالى عنه بخمس خصال ، منهن إذا طلق المريض امرأته ثلاثا ، ورثته إذا مات ، وهي في العدة ، وعنالشعبي أن أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزاري كانت تحت عثمان بن عفان رضي الله عنه ففارقها بعد ما حوصر ، فجاءت إلى علي رضي الله عنه بعد ما قتل ، وأخبرته بذلك ، فقال : تركها حتى إذا أشرف على الموت فارقها ، وورثها منه ، وإن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طلق امرأته تماضر آخر التطليقات الثلاث في مرضه فورثها عثمان رضي الله عنه ، وقال : ما اتهمته ، ولكني أردت السنة ، وعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة الفار ترث ما دامت في العدة ، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أنها ترث ما لم تتزوج ، وقال ابن سيرين : كانوا يقولون : من فر من كتاب الله تعالى رد إليه يعني هذا الحكم ، والقياس يترك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن قيل : لا إجماع هنا ، فقد قال ابن الزبير رضي الله عنه في حديث تماضر : لو كان الأمر إلي لما ورثتها .

وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : ما طلقتها ضرارا ولا فرارا ، قلنا : معنى قول ابن الزبير رضي الله عنه : ما ورثتها ، أي ; لجهلي بوجه الاستحسان فتبين أنه كان يخفى عليه ما لم يخف على عثمان رضي الله عنه ، وفي بعض الروايات أنها سألته الطلاق فمعنى قولها : ما ورثها ; لأنها سألته الطلاق ، وبه نقول ، ولكن توريث عثمان رضي الله عنه إياها بعد سؤالها الطلاق دليل على أنه كان يورثها قبله ، وقد قيل : ما سألته الطلاق ولكنه قال لها : إذا طهرت فآذنيني ، فلما طهرت آذنته ، وبهذا لا يسقط ميراثها ، وابن عوف رضي الله عنه لم ينكر التوريث إنما نفى عن نفسه تهمة الفرار حتى روي أن عثمان رضي الله عنه عاده ، فقال : لو مت ورثتها منك ، فقال : أنا أعلم ذلك ما طلقتها ضرارا ولا فرارا ، والمعنى فيه أنه قصد إبطال حقها عن الميراث بقوله : فيرد عليه قصده كما لو وهب جميع ماله من إنسان ، وإنما قلنا ذلك ; لأن بمرض الموت تعلق حق الورثة بماله ; ولهذا يمنع عن التبرع بما زاد على الثلث ، ثم استحقاق الميراث بالسبب ، والمحل .

فإذا كان تصرفه في المحل يجعل [ ص: 156 ] كالمضاف إلى ما بعد الموت حكما ; إبقاء لحق الوارث ، فتصرفه بالسبب بالرفع يجعل كالمضاف إلى ما بعد الموت حكما ، بل ، أولى ; لأن الحكم يضاف إلى السبب دون المحل ، وإذا صار كالمضاف ، كان النكاح بينهما قائما عند الموت حكما ; ولهذا قال ابن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه : إن عدتها في حق الميراث لا تنقضي حتى إن لها الميراث ما لم تتزوج ، فإذا تزوجت فهي التي رضيت بسقوط حقها ، ولها ذلك كما لو سألته الطلاق في الابتداء ، ولكنا نقول : لما انقضت عدتها حل لها أن تتزوج ، وذلك دليل حكمي مناف للنكاح الأول فلا يبقى معه النكاح حكما كما لو تزوجت ، وهو نظير وجوب الصلاة على التي انقطع دمها فيما دون العشرة بمضي الوقت يجعل كأداء الصلاة في الحكم بانقضاء العدة ، وما قاله مالك من بقاء الميراث بعد التزوج بعيد ; لأن المرأة الواحدة لا ترث من زوجين بحكم النكاح ، وما قاله يؤدي إلى هذا ، ثم بعد انقضاء العدة يكون مسقطا حقها بعوض ، فإنها تقدر على أن تتزوج بزوج آخر فتستحق ميراثه ، وذلك صحيح من المريض كما لو باع ماله بمثل قيمته ، فأما قبل انقضاء العدة يكون هذا إبطالا لحقها بغير عوض ; لأنها لا تقدر على التزوج ، وهذا بخلاف النسب ، فإنه لا ينقطع بمجرد قوله ، إنما ينقطع بقضاء القاضي باللعان ، وذلك أمر حكمي ، ثم النسب بعد ثبوته لا ينقطع ، ولكن يتبين بنفيه أنه لم يكن ثابتا في ولد أم الولد فيتبين أنه لم يكن له حق في ماله ، ولكن الكلام من حيث المعنى ليس بقوي ، فإن بعد ثبوت حرمة المحل إما بالطلقات الثلاث ، أو بالمصاهرة يتعذر إبقاء النكاح حكما ، ولكن يجعل بقاء العدة التي هي حق من حقوق النكاح كبقاء النكاح في حكم التوريث باتفاق الصحابة رضوان الله عليهم ، ولهذا لو كان الطلاق قبل الدخول لا ترث ; لأنه لا عدة عليها ، ولكن هذا في إبقاء ما كان ثابتا لا في إثبات ما لم يكن ثابتا حتى لو كان صحيحا حين طلقها لم ترث منه ، وإنما أقمنا العدة مقام النكاح ; لدفع الضرر عنها ، فإذا كان الطلاق بسؤالها فقد رضيت هي بسقوط حقها فلا ميراث لها منه ، وإن مات ، وهي في العدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية