صفحة جزء
( قال ) : وخلع المكره وطلاقه وعتاقه جائز عندنا ، وهو باطل عند الشافعي رحمه الله تعالى ، فتأثير الإكراه عنده في إلغاء عبارة المكره كتأثير الصبي ، والجنون .

وعندنا تأثير الإكراه في انعدام الرضا لا في إهدار القول حتى تنعقد تصرفات المكره ، ولكن ما يعتمد لزومه [ ص: 177 ] تمام الرضا كالبيع لا يلزم منه ، وما لا يعتمد تمام الرضا كالنكاح والطلاق ، والعتاق يلزم منه ، وحجته في ذلك قوله : صلى الله عليه وسلم { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } ، فهذا يقتضي أن عين ما أكره عليه فحكمه وإثمه يكون مرفوعا عنه ، والمعنى فيه أن هذه فرقة يعتمد سببها القول ، فلا تصح من المكره كالردة ، وتأثيره أن القول إنما يعتبر شرعا ، إذا صدر عن قصد صحيح وبسبب الإكراه ينعدم ذلك القصد ; لأن المكره يقصد دفع الشر عن نفسه لا عين ما تكلم به ، وهو مضطر إلى هذا القصد والاختيار أيضا فيفسد قصده شرعا .

ألا ترى أنه لو أكره على الإقرار بالطلاق كان إقراره لغوا ; لهذا يقرره أن تأثير الإكراه المبيح للإقدام في جعل المكره آلة للمكره وإعدام الفعل من المكره ، كما في الإكراه على إتلاف المال فيجعل المكره آلة ، ويصير كأن المكره هو الذي تكلم بالإيقاع فيكون لغوا .

ألا ترى أن حق إبقاء قدر الملك على المكره جعل كالآلة ; حتى يكون المكره ضامنا قيمة عبده عندكم إذا أكرهه على أن يعتقه ، ويكون ضامنا نصف الصداق إذا أكرهه على الطلاق قبل الدخول ، فكذلك في إبقاء عين الملك عليه يجعل آلة له ، وحجتنا في ذلك ما روي { أن امرأة كانت تبغض زوجها فوجدته نائما فأخذت شفرة وجلست على صدره ، ثم حركته ، فقالت : لتطلقني ثلاثا ، أو لأذبحنك ، فناشدها الله تعالى فأبت فطلقها ثلاثا ، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك ، فقال : صلى الله عليه وسلم لا قيلولة في الطلاق } ، واستكثر محمد من الاستدلال بالآثار في أول كتاب الإكراه حتى روى عن عمر رضي الله عنه قال أربع مبهمات مقفلات ليس فيهن رديد : النكاح والطلاق ، والعتاق والصدقة ، والمعنى فيه أنه مكلف ، أوقع الطلاق في محله فيقع كالطائع ، وتفسير الوصف أن الإكراه لا يزيل الخطاب ، أما في غير ما أكره عليه ، فلا إشكال ، وفيما أكره عليه كذلك حتى تنوع عليه أفعاله فتارة يباح له الإقدام ، وتارة يفترض عليه كشرب الخمر ، وتارة يحرم عليه كالقتل والزنا ، وذلك لا يكون إلا باعتبار الخطاب ، وتأثيره أن انعقاد التصرف بوجود ركنه ومحله ، ولا ينعدم بسبب الإكراه ، ذلك إنما ينعدم الرضا به ، والرضا ليس بشرط ; لوقوع الطلاق .

ألا ترى أن الرضا باشتراط الخيار ينعدم ، ولا يمنع لزوم الطلاق ، فكذلك الإكراه وبسبب الإكراه لا ينعدم القصد الصحيح ، فإن المكره يقصد ما باشره ولكن لغيره ، وهو دفع الشر عن نفسه لا لعينه فهو كالهازل يكون قاصدا التكلم بالطلاق ، ولكن للعبث لا لعينه [ ص: 178 ] ثم الهزل لا يمنع وقوع الطلاق ، فكذلك الإكراه وللمكره اختيار صحيح ; لأنه عرف الشرين فاختار أهونهما ، وهذا دليل صحة اختياره إلا أنه لا يحكم بصحة ردته ; لأنها تنبني على الاعتقاد ، وهو غير معتقد ، وفيما يخبر به عن اعتقاده مكره ، فذلك دليل ظاهر على أنه غير معتقد بخلاف الهازل ، فإنه مستخف بالدين ، والاستخفاف بالدين كفر ، وبخلاف الإقرار بالطلاق ، فإنه خبر متمثل بين الصدق ، والكذب ، وقيام السبب على رأسه دليل على أنه كاذب ، والمخبر به إذا كان كذبا ; فالإخبار عنه لا يصير صدقا ولا معنى لجعل المكره آلة للمكره هنا ; لأنه إنما يجعل بالإكراه آلة فيما يصلح أن يكون فيه آلة لغيره دون ما لا يصلح أن يكون كذلك ، وفي التكلم لا يصلح أن يكون آلة لغيره ; إذ لا يتحقق تكلم المرء بلسان غيره فبقي مقصورا عليه ، ولكن في حكم الإتلاف يصلح أن يكون آلة لغيره ; فلهذا كان الضمان على المكره مع أن الخلاف ثابت في الإكراه بالحبس ، وهذا النوع من الإكراه لا يجعل المكره آلة للمكره ، والمراد بالحديث رفع الإثم عن المكره لا رفع العين ، والحكم ، ألا ترى أنه لو أكره أن يجامع أم امرأته وجب عليه الغسل ، وحرمت عليه امرأته بذلك . .

التالي السابق


الخدمات العلمية