صفحة جزء
فأما الشهادة على عتق العبد لا تقبل مع جحود العبد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وتقبل في قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - وجه قولهما أن المشهود به في حق الشرع ، وعدم الدعوى لا يمنع قبول الشهادة عليه كعتق الأمة وطلاق الزوجة ، وبيان ذلك أن المشهود به العتق ، وهو حق الشرع ، ألا ترى أنه لا يحتاج فيه إلى قبول العبد ، ولا يرتد برده وإنه مما يجوز أن يحلف به وإنما يحلف بما هو حق الشرع وإن إيجابه في المجهول صحيح ، ولا يصح إيجاب الحق للمجهول ، ويتعلق به حرمة استرقاقه ، وذلك حق الشرع قال النبي : عليه الصلاة والسلام { ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة } ، وذكر في جملتهم من استرق الحر ، ويتعلق به حكم تكميل الحدود ، ووجوب الجمعة ، والأهلية للولايات ثم الاسترقاق على أهل الحرب عقوبة بطريق المجازاة لهم حين أنكروا وحدانية الله فجازاهم على ذلك ، بأن جعلهم عبيد عبيده فإزالته بعد الإسلام يكون حقا للشرع ، ولهذا كانت قربة تتأدى بعض الواجبات بها ، والدليل عليه أن التناقض في الدعوى لا يمنع قبول البينة حتى لو أقر بالرق ثم ادعى حرية الأصل وأقام البينة قبلت بينته والتناقض يعدم الدعوى ، وحجة أبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام ثم يفشوا الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد فقد جعل أداء الشهادة قبل الاستشهاد من أمارات الكذب ، فظاهره يقتضي أن لا يكون مقبولا منه إلا حيث خص بدليل الإجماع .

والمعنى فيه أن إزالة ملك اليمين بالقول ، ولا يتضمن معنى تحريم الفرج ، فلا تقبل الشهادة فيه إلا بالدعوى كالبيع ، وتأثيره أن المشهود به حق العبد ; لأن الإعتاق إحداث قوة الملكية والاستبداد فيتضمن انتفاء ذل الملكية ، والرق ، وذلك كله حق العبد فأما ما ، وراء ذلك من ثمرات العتق فلا يعتبر ذلك وإنما يعتبر المشهود به ، فإذا كان الحق للعبد يتوقف قبول البينة على دعواه ، ونحن نسلم أن في السبب معنى حق الشرع ، ولهذا لا يتوقف على قبوله ، ولا يرتد برده ، ولكن هذا لا يدل على قبول البينة [ ص: 94 ] فيه من غير الدعوى كالعفو عن القصاص ثم العبد غير متهم في هذا الإنكار ; لأن العاقل لا يجحد الحرية ليستكسبه غيره فينفق عليه بعض كسبه ، ويجعل الباقي لنفسه فصح إنكاره ، وصار به مكذبا لشهوده بخلاف الأمة ; لأنها متهمة في الإنكار على ما قلنا ، حتى لو كان العبد متهما بأن كان لزمه حد قذف أو قصاص في طرف فأنكر العتق تقبل الشهادة ، ومن أصحابنا من قال : التناقض إنما يعدم الدعوى فيما يحتمل الفسخ بعد ثبوته ; لأن أول كلامه ينقض آخره ، وآخره ينقض أوله فأما فيما لا يحتمل النقض بعد ثبوته فلا معتبر بالتناقض كما في دعوى النسب فإن الملاعن إذا أكذب نفسه ثبت النسب منه .

ولا ينظر إلى تناقضه في الدعوى ، ولا ناقض لحرية الأصل في دارنا فالتناقض فيه لا يكون معدما للدعوى ، وهذا ضعيف ، فإن من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى : أنه بعدما أقر بنسب ، والد أمته لغيره ولو ادعاه لنفسه لا يصح للتناقض ، والنسب لا يحتمل النقض ، والوجه أن يسلك فيه طريقة الشبهين فنقول : من حيث السبب المشهود به من حق الشرع بمنزلة طلاق الزوجة ، وعتاق الأمة ، ومن حيث الحكم المطلوب بالسبب هو حق العبد كما بينا ، وما تردد بين الشبهين يوفر حظه عليهما فلشبهه بحقوق العباد قلنا : الشهادة لا تقبل بدون الدعوى ولشبهه بحق الشرع قلنا : التناقض في الدعوى لا يمنع قبول البينة عليه ، وإذا شهدوا أنه أعتق عبده سالما ، ولا يعرفون سالما ، وله عبد واحد واسمه سالم فإنه يعتق لما بينا أن إيجاب العتق في المجهول صحيح ، ولأن ملكه متعين لما أوجبه فبان لا يعرف الشهود العبد لا يمنع قبول شهادتهم كما أن القاضي يقضي بالعتق إذا سمع هذه المقالة من المولى ، وإن كان هو لا يعرف العبد ، ولو شهدوا به في البيع أبطلته لما بينا أن الجهالة التي تفضي إلى المنازعة تمنع صحة البيع ، وإذا لم يعرف الشهود العبد فهذه جهالة تفضي إلى المنازعة ، ويتعذر على القاضي القضاء لأجله بالشهادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية