صفحة جزء
وإذا حلف أن يهدي مالا يملكه لا يلزمه شيء لقوله عليه الصلاة والسلام { : لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم } ، ومراده من هذا اللفظ أن يقول : إن فعلت كذا فلله علي أن أهدي هذه الشاة ، وهي مملوكة لغيره ، فأما إذا قال : والله لأهدين هذه الشاة ينعقد يمينه ; لأن محل اليمين خبر فيه رجاء الصدق ، وذلك بكون الفعل ممكنا ، ومحل النذر فعل وهو قربة ، وإهداء شاة الغير ليس بقربة ، إلا أن يريد اليمين فحينئذ ينعقد ; لأن في النذر معنى اليمين حتى ذكر الطحطاوي أنه لو أضاف النذر إلى ما هو معصية وعنى به اليمين بأن قال : لله تعالى علي أن أقتل فلانا ، كان يمينا ، ويلزمه الكفارة بالحنث ; لقوله { : النذر يمين وكفارته كفارة اليمين } ، وإذا قال : لله علي أن أنحر ولدي ، أو أذبح ولدي لم يلزمه شيء في القياس ، وهو قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى وفي الاستحسان يلزمه ذبح شاة ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لكنه إن ذكر بلفظ الهدي ، فذلك يختص بالحرم ، وفي سائر الألفاظ إما أن يذبحها في الحرم أو في أيام النحر . وجه القياس أنه نذر بإراقة دم محقون فلا يلزمه شيء ، كما لو قال : أبي أو أمي ; وهذا لأن الفعل الذي سماه معصية ولا نذر في معصية الله تعالى لأنه لو نذر ذبح ما يملك ذبحه ، ولكن لا يحل ذبحه كالحمار والبغل لا يلزمه شيء ، ولو نذر ذبح ما يحل ذبحه ، ولكن لا يملك ذبحه كشاة الغير لا يلزمه شيء ، فإذا نذر ذبح ما لا يحل ذبحه ولا يملك ذبحه أولى أن لا يلزمه شيء ، وجه الاستحسان ما روي : أن رجلا سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه المسألة فقال : أرى عليك مائة بدنة ، ثم قال : ائت ذلك الشيخ فاسأله ، وأشار إلى مسروق فسأله فقال : أرى عليك شاة فأخبر بذلك ابن عباس رضي الله عنهما ، فقال : وأنا أرى عليك ذلك ، وفي رواية عن ابن عباس أنه أوجب فيه كفارة اليمين ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أوجب فيه بدنة أو مائة بدنة .

وسألت امرأة عبد الله بن عمر فقالت إني جعلت ولدي نحيرا . فقال : أمر الله بالوفاء بالنذر . فقالت : أتأمرني بقتل ولدي ، فقال : نهى الله عن قتل الولد ، وإن عبد المطلب نذر إن تم له عشرة بنين أن يذبح عاشرهم ، فتم له ذلك بعبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقرع بينه وبين عشر من [ ص: 140 ] الإبل ، فخرجت القرعة عليه ، فما زال يزيد عشرا عشرا ، والقرعة تخرج عليه حتى بلغت الإبل مائة ، فخرجت القرعة عليها ثلاث مرات ، فنحر مائة من الإبل ، وأرى عليك مائة من الإبل ، والصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على صحة النذر ، واختلفوا فيما يخرج به ، فاستدللنا بإجماعهم على صحة النذر ; لأن من الإجماع أن يشتهر قول بعض الكبار منهم ، ولا يظهر خلاف ذلك ، ولا شك أن رجوع ابن عباس إلى قول مسروق قد اشتهر ، ولم يظهر من أحد خلاف ذلك ، والذي روي عن مروان أخطأ الفتيا لا نذر في معصية الله شاذ لا يلتفت إليه ، فإن قول مروان لا يعارض قول الصحابة ، مع أن الإجماع لا يعتبر فيما يكون مخالفا للقياس ، ولكن قول الواحد من فقهائهم فيما يخالف القياس حجة ، يترك به القياس ; لأنه لا وجه لحمل قوله إلا على السماع ممن ينزل عليه الوحي ، ثم أخذنا بفتوى ابن عباس ومسروق في إيجاب الشاة لها ; لأن هذا القدر متفق عليه ، فإن من أوجب بدنة أو أكثر فقد أوجب الزيادة ; أو لأن من أوجب الشاة فإنما أوجبها استدلالا بقصة الخليل صلوات الله عليه ومن أوجب مائة من الإبل ، فإنما أوجبها استدلالا بفعل عبد المطلب ، والأخذ بفعل الخليل صلوات الله عليه أولى من الأخذ بفعل عبد المطلب ، وهو الاستدلال الفقهي في المسألة ، فإن الشاة محل لوجوب ذبحها بإيجاب ذبح مضاف إلى الولد ، فكان إضافة النذر بالذبح إلى الولد بهذا الطريق كالإضافة إلى الشاة ، فيكون ملزمة .

وبيانه أن الخليل صلوات الله وسلامه عليه أمر بذبح الولد كما أخبر به ولده فقال الله تعالى مخبرا عنه { : إني أرى في المنام أني أذبحك } أي أمرت بذبحك ، بدليل أن ابنه قال في الجواب { : يا أبت افعل ما تؤمر } ; ولأنهما اعتقدا الأمر بذبح الولد حيث اشتغلا به فأقرا عليه ، وتقرير الرسل على الخطأ لا يجوز ، خصوصا فيما لا يحل العمل فيه بغالب الرأي من إراقة دم نبي ، ثم وجب عليه بذلك الأمر ذبح الشاة ; لأن الله تعالى قال { : وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . } أي حققت ، وإنما حقق ذبح الشاة ، فلا يجوز أن يقول : إنما سماه مصدقا رؤياه قبل ذبح الشاة ; لأن في الآية تقديما وتأخيرا ، معناه وفديناه بذبح عظيم ، وناديناه أن يا إبراهيم وهذا ; لأن قبل ذبح الشاة إنما أتى بمقدمات ذبح الولد من تله للجبين وإمراره السكين على حلقه ، وبه لم يحصل الامتثال ; لأنه ليس بذبح ; ولأنه لو حصل الامتثال به لم تكن الشاة فداء ، ولا يجوز أن يقول : وجوب الشاة بأمر آخر ; لأن إثبات أمر آخر بالرأي غير ممكن ; ولأنه حينئذ لا يكون فداء . والله تعالى سمى الشاة فداء [ ص: 141 ] على أنه دفع مكروه الذبح عن الولد بالشاة ، وهذا إذا كان وجوب الشاة بذلك الأمر ، ولا يجوز أن يقال : وجب عليه ذبح الولد بدليل أنه اشتغل بمقدماته ، وإنما كانت الشاة فداء عن ولد وجب ذبحه ، وهذا لا يوجد في النذر ; وهذا لأنه ما أوجب عليه ذبح الولد حتى جعلت الشاة فداء ، إذ لو كان واجبا لما تأدى بالفداء مع وجود الأصل في يده ; ولأن الولد كان معصوما عن الذبح ، وقد ظهرت العصمة حسا على ما روي أن الشفرة كانت تنبو وتنفل ولا تقطع ، وبين كونه معصوما عن الذبح ، وبين كونه واجب الذبح منافاة فعرفنا أنه ما وجب ذبح الولد بل أضيف الإيجاب إليه على أن ينحل الوجوب بالشاة .

وفائدة هذه الإضافة الابتلاء في حق الخليل عليه السلام بالاستسلام وإظهار الطاعة فيما لا يضطلع فيه أحد من المخلوقين ، وللولد بالانقياد والصبر على مجاهدة بذل الروح إلى مكاشفة الحال ; وليكون له ثواب أن يكون قربانا لله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { : أنا ابن الذبيحين } وما ذبحا بل أضيف إليهما ، ثم فديا بالقرابين ، ولا يقال : قد وجب ذبح الولد ، ثم تحول وجوب ذبح الولد إلى الشاة بانتساخ المحلية فتكون الشاة واجبة بذلك الأمر كالدين يحال من ذمة إلى ذمة ، فيفرغ المحل الأول منه بعد الوجوب فيه ، فيكون واجبا في المحل الثاني بذلك السبب ; وهذا لأن الوجوب في المحل لا يكون إلا بعد صلاحية المحل له ، وبعد ذلك وإن تحول إلى محل آخر يبقى المحل الأول صالحا لمثله كالدين إذا حول من ذمة إلى ذمة ، ولم يبق الولد محلا صالحا لذبح هو قربان ، فعرفنا أنه لم يكن محلا ، وأن الوجوب بحكم ذلك الإيجاب حل بالشاة من حيث إنه يقدم على الولد في قبول حكم الوجوب ، ولهذا سمي فداء . نظيره من الحياة أن يرمي إلى إنسان فيفديه غيره بنفسه ، من حيث إنه يتقدم عليه لينفذ السهم فيه ، لا أن يتحول إليه بعد ما وصل إلى المحل ، ويقول لغيره : فدتك نفس عن المكاره . والمراد هذا ومن الشرعيات الخف مقدم على الرجل في قبول حكم الحدث ، لا أن يتحول إلى الخف ما حل بالرجل من الحدث ، ولو سلمنا أنه وجب ذبح الولد فإنما كان ذلك لغيره ، وهو الفداء لا لعينه ، ولهذا صار محققا رؤياه بالفداء وفي مثل هذا إيجاب الأصل في حال العجز عنه يكون إيجابا للفداء ، كالشيخ الفاني إذا نذر الصوم يلزمه الفداء ; لأن وجوب الصوم عليه شرعا لغيره وهو الفداء لا لعينه ، فإنه عاجز عنه وذكر الطبري في تفسيره أن الخليل عليه السلام كان نذر الذبح لأول ولد يولد له ، ثم نسي ذلك فذكر في المنام ، فإن ثبت هذا فهو نص ; لأن شريعة من قبلنا تلزمنا ما لم يظهر ناسخه [ ص: 142 ] خصوصا شريعة الخليل صلوات الله عليه قال الله تعالى : ف { اتبع ملة إبراهيم حنيفا } .

التالي السابق


الخدمات العلمية