صفحة جزء
وإن حلف لا يساكنه في بيت فدخل عليه فيه زائرا أو ضيفا ، وأقام فيه يوما أو يومين لم يحنث ; لأن هذا ليس بمساكنة إنما المساكنة بالاستقرار والدوام ، وذلك بمتاعه وثقله ، ألا ترى أن الإنسان يدخل في المسجد كل يوم مرارا ، ولا يسمى ساكنا فيه ، ويدخل على الأمير ، ويكون في داره يوما ، ولا يسمى مساكنا له في داره ، فكذلك هذا الذي دخل على فلان زائرا أو ضيفا لا يكون ساكنا معه فيه ، فلا يحنث إلا أن ينويه ، فحينئذ في نيته تشديد عليه ، فيكون عاملا ، ألا ترى أن الرجل قد يمر بالقرية فيبيت فيها ، ويقول : ما ساكنتها قط فيكون صادقا في ذلك ، ولو كان ساكنا في دار فحلف أن لا يسكنها ، ولا نية له ، ثم أقام فيها يوما أو أكثر لزمه الحنث ; لأن السكنى فعل مستدام حتى يضرب له المدة ، ويقال : سكن يوما أو شهرا ، والاستدامة على ما يستدام كالإنشاء . قال الله تعالى { : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى } . أي لا تمكث قاعدا ، فيجعل استدامة السكنى بعد يمينه كإنشائه ، وكذلك اللبس والركوب ; لأنه يستدام كالسكنى ، فأما إذا أخذ في النقلة من ساعته ، أو في نزع الثوب أو في النزول عن الدابة لم يحنث عندنا استحسانا ، وفي القياس يحنث ، وهو قول زفر رحمه الله تعالى لوجود جزء من الفعل المحلوف عليه بعد يمينه إلى أن يفرغ عنه ، ووجه الاستحسان أن هذا القدر لا يستطاع الامتناع عنه ، فيصير مستثنى لما عرف من مقصود الحالف ، وهو البر دون الحنث ، ولا يتأتى البر إلا بهذا ; ولأن السكنى هو الاستقرار والدوام في المكان ، والخروج ضده ، فالموجود منه بعد اليمين ما هو ضد السكنى حين أخذ في النقلة في الحال ، ولو خرج منها بنفسه ، ولم يشتغل بنقل الأمتعة يحنث عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى : لا يحنث ; لأنه عقد يمينه على سكناه ، وحقيقة ذلك بنفسه فينعدم بخروجه عقيب اليمين ، وحكي عنه في التعليل هذه المسألة ، قال : خرجت من مكة ، وخلفت فيها دفيترات أفأكون ساكنا بمكة ؟

( وحجتنا ) في ذلك أنه ساكن فيها بثقله وعياله ، فما لم ينقلهم فهو ساكن فيها لما بينا أن السكنى فعل على سبيل الاستقرار والدوام ، وذلك لا يتأتى إلا بالثقل والمتاع ، والعرف شاهد لذلك فإنك تسأل السوقي ، أين تسكن ؟ فيقول : في محلة كذا وهو في تجارته يكون [ ص: 163 ] في السوق ، ثم يشير إلى موضع ثقله وعياله ومتاعه ، فعرفنا أن السكنى بذلك بخلاف الدفيترات ، فإن السكنى لا تتأتى بها ، مع أن من مشايخنا من يقول : إذا كان يمينه على أن لا يسكن بلدة كذا فخرج منها بنفسه لم يحنث ، وإن خلف ثقله بها ، وقد روي بعض ذلك عن محمد رحمه الله تعالى بخلاف السكنى في الدار ، فإن من يكون في المصر في السوق يسمى ساكنا في الدار التي فيها ثقله ومتاعه وعياله ، فأما المقيم بأوزجند لا يسمى ساكنا ببخارى ، وإن كان بها عياله وثقله ، وقال رضي الله عنه : وهذه المسألة تنبني على أصل في مسائل الأيمان بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى أن عنده العبرة بحقيقة اللفظ ، والعادة بخلافها فلا تعتبر ; لأن المجاز لا يعارض الحقيقة وعندنا العادة الظاهرة اصطلاح طارئ على حقيقة اللغة ، والحالف يريد ذلك ظاهرا فيحمل كلامه عليه ، ألا ترى أن المديون يقول لصاحب الدين : والله لأجرينك على الشوك فيحمل على شدة المطل دون حقيقة اللفظ ، وكان مالك يقول : ألفاظ اليمين محمولة على ألفاظ القرآن ، وهذا بعيد أيضا فإن من حلف لا يستضيء بالسراج فاستضاء بالشمس لا يحنث ، والله تعالى سمى الشمس سراجا .

ومن حلف لا يجلس على البساط فجلس على الأرض لم يحنث ، والله تعالى سمى الأرض بساطا ، ولو حلف لا يمس وتدا ، فمس جبلا لا يحنث ، وقد سمى الله تعالى الجبال أوتادا ، فعرفنا أن الصحيح ما قلنا ، فإن نقل بعض الأمتعة فالمروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، أنه يحنث إذا ترك بعض أمتعة فيها ; لأنه كان ساكنا فيها بجميع الأمتعة ، فيبقى ذلك ببقاء بعض الأمتعة فيها ، وهو أصل لأبي حنيفة حتى جعل بقاء صفة السكون في العصير مانعا من أن يكون خمرا ، وبقاء مسلم واحد منا في بلدة ارتد أهلها مانعا من أن تصير دار حرب ، إلا أن مشايخنا رحمهم الله قالوا : هذا إذا كان الباقي يتأتى بها السكنى ، أما ببقاء مكنسة أو وتد أو قطعة حصير فيها ، فيبقى ساكنا فيها فلا يحنث ، وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قريب من هذا قال : إن بقي فيها ما يتأتى لمثله السكنى به يحنث وإلا فلا ، وعن محمد رحمه الله تعالى قال : إن نقل إلى المسكن الثاني ما يتأتى له السكنى به لم يحنث ; لأن بهذا صار ساكنا في المسكن الثاني فلا يبقى ساكنا في المسكن الأول ، ولو كان في طلب مسكن آخر ، فبقي في ذلك يوما أو أكثر لم يحنث في الصحيح من الجواب ; لأنه لا يمكنه طرح الأمتعة في السكة ، فيصير ذلك القدر مستثنى لما عرف من مقصوده إذا لم يفرط في الطلب ، وكذلك إن بقي في نقل الأمتعة أياما لكثرة أمتعته ولبعد المسافة ، ولم يستأجر لذلك جمالا بل جعل [ ص: 164 ] ينقل بنفسه شيئا فشيئا لم يحنث ، وإن بقي في ذلك شهرا إذا لم يفرط ; لأن نقل الأمتعة ضد الاستقرار في ذلك المكان ، فاشتغاله به يمنعه من أن يكون ساكنا فيه فلا يحنث لهذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية