صفحة جزء
( قال ) ويقطع السارق من المستودع والمضارب والمستعير والغاصب والمرتهن عندنا ، وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لا يقطع بخصومة هؤلاء ما لم يحضر المالك والكلام مع الشافعي رحمه الله تعالى ينبني على أن لهؤلاء حق الخصومة في الاسترداد عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس لهم ذلك عند جحود من في يده ما لم يحضر المالك ، وقد بينا هذا في الوديعة ، فأما الكلام مع زفر رحمه الله تعالى يتحقق في هذه المسألة هو يقول خصومة هؤلاء تقوم مقام خصومة المالك فلا يستوفى القطع بمثله ، كما لا يستوفى بخصومة وكيل المسروق منه ، وهذا ; لأنه استوفى مع تمكن الشبهة ، فإن المالك إذا حضر ربما يقر بالملك له أو أنه كان مأذونا في الأخذ من جهته ، وما يندرئ بالشبهات لا يستوفي مع تمكن الشبهة ، ألا ترى أن القصاص في النفس لا يستوفى بخصومة المستودع عند غيبة المالك لهذا المعنى ؟

فأما الأب أو الوصي ، فقد قيل على قول زفر رحمه الله لا يستوفى القطع بخصومتهما أيضا لاعتبار معنى النيابة ، وقيل : إنه يستوفى ; لأنه ليس فيه تمكن الشبهة في الحال ، فإن إقرار الصغير بالملك للسارق لغو ، ولهذا ملك الأب استيفاء القصاص في الطرف والنفس جميعا وملك الوصي استيفاء القصاص في الطرف في إحدى الروايتين توضيحه أن المال مضمون على السارق ، وفي استيفاء القطع إسقاط الضمان وصاحب اليد إذا لم يكن مالكا لا يملك إسقاط الضمان فلا يستوفى القطع بخصومته .

( وحجتنا ) فيه أن السرقة تمت موجبة للقطع فيستوفى القطع بخصومة المسروق منه كالمالك والأب والوصي إن سلم ، وبيانه أن المالك لو حضر وخاصم يستوفي القطع بالاتفاق وتأثيره أن يعد تمام الفعل موجبا للقطع ، الشرط ظهوره عند الإمام بلا شبهة ، وقد ظهر بخصومة هؤلاء ; لأن أيديهم صحيحة ، وصاحب اليد الصحيحة إذا أزيلت يده كان له حق الخصومة في الإعادة ; لأن اليد مقصود كالملك ، ألا ترى أن الغاصب يضمن بتفويت اليد ؟ ولأن صاحب اليد وإن كان أمينا فلا يتمكن من أداء الأمانة إلا بيده ، وإن كان ضامنا فلا يتمكن من إسقاط الضمان عن نفسه إلا بيده فكانت اليد مقصودة له ، ولا شك في حق المرتهن أن اليد مقصودة ; لأن موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء حقا للمرتهن ، وكل من كان خصما في إثبات إزالة يده يكون خصما في إثبات سبب الإزالة ، كمن ادعى عينا في يد إنسان أنه له اشتراه [ ص: 145 ] من فلان الغائب وأقام البينة على ذلك قبلت بينته حتى إذا حضر الغائب وأنكر البيع لم يلتفت إلى ذلك ; لأنه لما كان خصما في إثبات الملك لنفسه كان خصما في إثبات سببه ، وسبب الإزالة هاهنا السرقة فيظهر بخصومته عند الإمام بلا شبهة ; لأنه أصل في هذه الخصومة ، وإنما يخاصم باعتبار حقه لا باعتبار ملك الغير ، ألا ترى أنه يستغني عن إضافة الخصومة إلى غيره ؟ فإنه يقول : سرق مني وأزال يدي بخلاف الوكيل ، وإذا ظهرت السرقة بلا شبهة استوفى الإمام القطع حقا لله تعالى ، ولا يمتنع الاستيفاء لتوهم اعتراض إقرار من المالك إذا حضر ، ألا ترى أن المالك إذا حضر وغاب المودع يستوفى القطع ، وإن كان يتوهم أن يحضر المودع فيقر أنه كان ضيفا عنده .

وهذا ; لأن المؤثر شبهة يتوهم وجودها في الحال ، فأما ما يتوهم اعتراضها لا يعتبر ، ألا ترى أن القطع يستوفى بالإقرار ، وإن كان يتوهم اعتراض الرجوع من المقر ، وصاحب اليد بهذه الخصومة إنما يقصد إحياء حق المالك لا إسقاطه ، ولكن الإمام إذا استوفى القطع حقا لله تعالى فمن ضرورته سقوط الضمان على ما نبينه فلا يصير به المودع مسقطا للضمان بل القطع مشروع بطريق الزجر ، فإذا علم السارق أنه لا يقطع بخصومة المودع في حال غيبة المالك يجترئ على سرقة الوديعة فلتحقيق الزجر يستوفى القطع بخصومته ويكون ذلك من الحفظ حكما .

كما أن الله تعالى وصف القصاص بأنه حياة ، وهو إماتة في الحقيقة ، ولكن فيه حياة بطريق الزجر ، فأما القصاص إنما لا يستوفى بخصومة المودع لتمكن شبهة عفو من المالك في الحال ، ولأن اليد فيما تناوله من الإيداع له ، وهو المالية ووجوب القصاص باعتبار معنى النفسية ، وذلك لا يتناوله الإيداع بخلاف الخصومة في السرقة ، فإنه يكون في المال باعتبار معنى المالية فيكون المودع أصلا بنفسه ، ولأن الحرز الذي هو المودع لا أثر له في القصاص بخلاف القطع ، فإنه لا يجب إلا بهتك الحرز وأخذ المال وكل واحد منهما جناية تصلح سببا للعقوبة فكان المودع باعتبار هذا المعنى كالمودع ; لأنه صاحب أحد وصفي السبب فكما أن المالك أصل في الخصومة المظهرة للسرقة بلا شبهة ، فكذلك المودع

التالي السابق


الخدمات العلمية