صفحة جزء
وإذا غلب قوم من أهل الحرب على قوم آخرين من أهل الحرب فاتخذوهم عبيدا للملك ، ثم إن الملك وأهل أرضه أسلموا أو صاروا ذمة فأولئك المغلوبون عبيد له يصنع بهم ما شاء لما بينا أنهم نهبة ، فالمقهورون منهم صاروا مملوكين للقاهر بإحرازه إياهم بمنعته ; لأن قهره بالذين هم جنده [ ص: 143 ] يطيعونه كقهره بنفسه ، وأما جنده الذين غلب بهم فهم أحرار ; لأنه كان قاهرا بهم لا لهم فكانوا قبل الإسلام أحرارا ، وبالإسلام تتأكد حريتهم ، ولا تبطل ، وإن حضر الملك الموت فورث ماله بعض بنيه دون بعض أو جعل لكل واحد من بنيه موضعا معلوما ، فإن كان صنع ذلك قبل أن يسلم أو يصير ذمة ثم أسلم ، ولده بعده فهو جائز على ما صنع ; لأن الولد الذي ملكه أبوه صار قاهرا مالكا لما أعطاه ، ولو فعل ذلك بعد موت أبيه بقوته بنفسه أو أتباعه كان يتم ملكه فكذلك إذا فعله بقوة أبيه ومنعته ، وما كان هو مالكا له قبل الإسلام فبالإسلام يتأكد ملكه فيه ، وكذلك إن كان فعله وهو موادع للمسلمين جاز أيضا ; لأن بالموادعة لا تخرج أمواله من أن تكون نهبة تملك بالقهر ، وإنما يحرم علينا أخذه لمعنى الغدر ، وهذا لأن بالموادعة لا يصير محرزا له ، فإن داره لا تصير دار الإسلام ، فكان ما فعله بعد الموادعة من تخصيص بعض الأولاد بتمليك المال منه كالمفعول قبل الموادعة ، ولأنه ما التزم أحكام الإسلام ، والمنع من إيثار بعض الأولاد على البعض من حكم الإسلام ، وإن كان جعله لابنه فظهر عليه ابن آخر له بعده فقتله أو نفاه ، وغلب على ما في يده ، ثم أسلم كان للابن القاهر ما غلب عليه من ذلك لما بينا أنه بالقهر يصير متملكا عليه ذلك المال لبقائه على الإباحة بعد الموادعة في حق ما بينهم ، فإن فعل ذلك هذا الابن بعد ما أسلم الابن المقهور أو صار ذمة غلبه على جميع ذلك ، وأخرج منه أخاه ، فإن صنعه وهو محارب فجميع ما غلبه عليه له إن أسلم أو صار ذمة ; لأنه تم إحرازه لمال المسلم أو الذمي فيملكه ، ويتأكد ملكه بإسلامه ، وإن صنعه وهو مسلم أو ذمي أمر برد ذلك عليه ; لأنهم جميعا من أهل دار الإسلام فلا يملك بعضهم مال بعض بالقهر .

وإن صنع وهو محارب ، ثم ظهر المسلمون على ذلك ، فإن وجده الابن الأول قبل القسمة أخذه بغير شيء ، وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة ، وإن اشتراه مسلم منهم وسعه ذلك ، وكان للأول أن يأخذه منه بالثمن إن شاء كما هو الحكم في أهل الحرب إذا أحرزوا مال المسلمين ، وإن كان الابن القاهر صنع ذلك ، وهما مسلمان أو ذميان فلا ينبغي للمسلمين أن يشتروا منه شيئا من ذلك ; لأنه غاصب غير مالك ، وهو مأمور بالرد ، ولا يسع أحدا أن يشتري منه شيئا من ذلك ، وإن اشتراه أخذه منه الأول بغير ثمن ; لأن البائع لم يكن مالكا فكذلك المشتري منه لا يكون مالكا بل يؤمر برده على المالك مجانا ، وإن ارتد هذا الابن القاهر بعد ذلك ، ومنع الدار ، وأجرى حكم الشرك في داره فقد تم إحرازه ، وصارت داره [ ص: 144 ] دار حرب عندهما بإجراء أحكام الشرك فيها ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه بالشرائط الثلاثة كما بينا ، فإن ظهر المسلمون على تلك الدار بعد ذلك أخذ الابن المقهور ما وجد من ماله قبل القسمة بغير شيء ، وما وجده بعد القسمة بالقيمة ; لأنه مال مسلم أحرزه أهل الحرب بدارهم ، ثم ظهر المسلمون عليه ، وقد بينا الحكم فيه فيما سبق ، والله أعلم . انتهى شرح السير الصغير المشتمل على معنى أثير بإملاء المتكلم بالحق المنير المحصور لأجله شبه الأسير المنتظر للفرج من العالم القدير السميع البصير المصلي على البشير الشفيع لأمته النذير ، وعلى كل صاحب له ووزير ، والله هو اللطيف الخبير .

التالي السابق


الخدمات العلمية