صفحة جزء
ثم الملتقط أمين ويصير بالدفع إلى غير المالك ضامنا فيكون له أن يتحرز عن اكتساب سبب الضمان بأن لا يدفع إليه حتى يقيم البينة فيثبت استحقاقه بحجة حكمية ، وله أن يتوسع فيدفع إليه باعتبار الظاهر ، فإن دفعها إليه أخذ منه بها كفيلا نظرا منه لنفسه ، فلعله يأتي مستحقها فيضمنها إياه ، ولا يتمكن من الرجوع على الأخذ منه ; لأنه يخفي شخصه فيحتاط فيها بأخذ الكفيل منه ، وإن صدقه ودفعها إليه ثم أقام آخر البينة أنها له ، فله أن يضمن الملتقط ، أما بعد التصديق يؤمر بالدفع إليه ; لأن الإقرار حجة في حق المقر ، لكن الإقرار لا يعارض بينة الآخر ; لأن البينة حجة متعدية إلى الناس كافة فيثبت الاستحقاق بها للذي أقام البينة ، ويتبين أن الملتقط دفع ملكه إلى غيره بغير أمره ، فله الخيار إن شاء ضمن القابض بقبضه ، وإن شاء ضمن الملتقط بدفعه ، فإن ضمن الملتقط رجع على المدفوع إليه ، وإن صدقه بإصابته العلامة فقد كان ذلك منه اعتمادا على الظاهر ، ولا بقاء له بعد الحكم بخلافه ، والمقر إذا صار مكذبا في إقراره يسقط اعتبار إقراره كالمشتري إذا أقر بالملك للبائع ثم استحقه إنسان من يده رجع على البائع بالثمن ، والرواية محفوظة في وكيل المودع إذا جاء إلى المودع وقال : أنا وكيله [ ص: 9 ] في استرداد الوديعة منك فصدقه لا يجبر على الدفع إليه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله ، بخلاف وكيل صاحب الدين ; لأن المديون إنما يقضي الدين بملك نفسه ، وإقراره في ملك نفسه ملزم ، فأما المودع يقر له بحق القبض في ملك الغير ، وإقراره في ملك الغير ليس بملزم ، فعلى هذا قال بعض مشايخنا رحمهم الله في اللقطة كذلك لا يجبر على دفعها إليه وإن صدقه .

ومنهم من فرق فقال : هناك الملك لغير الذي حضر ظاهر في الوديعة وهنا ليس في اللقطة ملك ظاهر لغير الذي حضر فينبغي أن يكون إقرار الملتقط ملزما إياه الدفع إليه ، ثم في الوديعة إذا دفع إليه بعد ما صدقه وهلك في يده ثم حضر المودع وأنكر الوكالة وضمن المودع فليس له أن يرجع على الوكيل بشيء ، وهنا للملتقط أن يرجع على القابض ; لأن هناك في زعم المودع أن الوكيل عامل للمودع في قبضه له بأمره ، وأنه ليس بضامن بل المودع ظالم في تضمينه إياه ، ومن ظلم فليس له أن يظلم غيره ، وهنا في زعمه أن القابض عامل لنفسه ، وأنه ضامن بعد ما يثبت الملك لغيره بالبينة فكان له أن يرجع عليه بعد ما ضمن ; لهذا يوضحه أن هناك المودع منكر الوكالة ، والقول فيه قوله مع يمينه ، فلا حاجة به إلى البينة ، وإنما يقضي القاضي على المودع بالضمان باعتبار الأصل وهو عدم الوكالة ، فلا يصير المودع مكذبا في زعمه حكما ، وهنا إنما يقضى بالضمان على الملتقط بحجة البينة فيصير هو مكذبا في زعمه حكما ، فإن كانت اللقطة مما لا يبقى إذا أتى عليه يوم أو يومان عرفها حتى إذا خاف أن تفسد تصدق بها ; لأن المقصود من التعريف إيصالها إلى صاحبها ، فتقيد مدة التعريف بالوقت الذي لا يفسد فيه ; لأن بعد الفساد لا فائدة لصاحبها في إيصالها إليه ، وقد بينا أن التصدق بها طريق لحفظها على صاحبها من حيث الثواب فيصير إلى ذلك إذا خاف أن تفسد العين ، وإذا وجد شاة أو بعيرا أو بقرة أو حمارا فحبسه ، وعرفه ، وأنفق عليه ، ثم جاء صاحبها ، وأقام البينة أنه له لم يرجع عليه بما أنفق ; لأنه متبرع في الإنفاق على ملك الغير بغير أمره إلا أن يكون أنفق بغير أمر القاضي ، فأما أمر القاضي بمنزلة أمر صاحبها لما للقاضي على صاحبها من ولاية النظر عند عجزه عن النظر بنفسه ، والأمر بالإنفاق من النظر ; لأنه لا بقاء للحيوان بدون النفقة عادة ، فإن رفعها إلى القاضي ، وأقام البينة أنه التقطها أمره بأن ينفق عليها على قدر ما يرى ، وقد بينا طريق قبول هذه البينة ، والأمر بالإنفاق بعدها في اللقيط .

ثم إنما يأمر بالإنفاق نظرا منه لصاحبها ، فلا يأمر إلا في مدة يتحقق فيها معنى النظر له من يومين أو ثلاثة ; لأنه لو أمر بالإنفاق في مدة طويلة ربما يأتي ذلك على [ ص: 10 ] قيمتها ، فلا يكون فيها نظر لصاحبها ، فأما في المدة اليسيرة تقل النفقة ، ومعنى النظر لحفظ عين ملكه عليه يحصل ، فإن لم يجئ صاحبها باع الشاة ونحوها ; لأن في البيع حفظ المالية عليه بالثمن ، وله ولاية الحفظ عليه بحسب الإمكان ، فإذا تعذر حفظ العين لعوز النفقة صار إلى حفظ المال عليه بالبيع ، وأما الغلام والدابة فنؤاجره وننفق عليه من أجره ; لأن بهذا الطريق يتوصل إلى حفظ عين ملكه ، والمنفعة لا تبقى له بعد مضي المدة فإجارته والإنفاق عليه بمحض نظر له ، فإذا باعها أعطاه القاضي من ذلك الثمن ما أنفق عليه بأمره في اليومين أو الثلاثة ; لأن الثمن مال صاحبها ، والنفقة دين واجب للملتقط على صاحبها ، وهو معلوم للقاضي فيقضي دينه بماله ; لأن صاحب الدين لو ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه فكذلك القاضي بعينه على ذلك ، فإن لم يبعها حتى جاء صاحبها ، وأقام البينة أنها له قضى له بها القاضي ، وقضى عليه بنفقة الملتقط ، فإن قال الملتقط : لا أدفعها إليك حتى تعطيني النفقة كان له ذلك ; لأن ملكه في الدابة حي ، وبقي تملك النفقة فكانت تلك النفقة متعلقة بمالية الدابة من هذا الوجه فيحبسها كما يحبس البائع المبيع بالثمن ، ولم يذكر في الكتاب أن الملتقط إذا لم يقم البينة هل يأمر القاضي بالإنفاق أم لا ، والصحيح أنه ينبغي للقاضي أن يقول : إن كنت صادقا فقد أمرتك بالإنفاق عليه ; لأن في هذا معنى النظر لهما ، ولا ضرر فيه على أحد ، فإنه إن كان غاصبا للدابة لم يخرج من ضمانه ، ولا يستوجب الرجوع بالنفقة على مالكها بالأمر لما قيده بكونه صادقا فيه .

وإذا التقط الرجل لقطة أو وجد دابة ضالة أو أمة أو عبدا أو صبيا حرا ضالا فرده على أهله لم يكن في شيء من ذلك جعل ; لأنه متبرع بمنافعه في الرد ، ووجوب الجعل لرد الآبق حكم ثبت نصا ، بخلاف القياس بقول الصحابة رضي الله عنهم فلا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه ، والضال ليس في معنى الآبق فالآبق لا يزال يتباعد من المولى حتى يفوته ، والضال لا يزال يقرب من صاحبه حتى يجده ، فلهذا أخذنا فيه بالقياس ، وإن عوضه صاحبه شيئا فهو حسن ; لأنه يحسن إليه في إحياء ملكه ورده عليه ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، ولأنه منعم عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم : { من أزالت إليه نعمة فليشكرها } وذلك بالتعويض ، وأدنى درجات الأمر الندب ، وإذا وجد الرجل بعيرا ضالا أخذه يعرفه ، ولم يتركه يضيع عندنا ، وقال مالك رحمه الله تركه أولى للحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم { سئل عن ضالة الغنم فقال : هي لك أو لأخيك أو للذئب } فلما { سئل عن ضالة الإبل غضب حتى احمرت وجنتاه ، وقال : مالك [ ص: 11 ] ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعي الشجر حتى يلقاها ربها } وتأويله عندنا أنه كان في الابتداء فإن الغلبة في ذلك الوقت كان لأهل الصلاح والخير لا تصل إليها يد خائنة إذا تركها واجدها ، فأما في زماننا لا يأمن واجدها وصول يد خائنة إليها بعده ففي أخذها إحياؤها وحفظها على صاحبها فهو أولى من تضييعها كما قررنا في سائر اللقطات ، وإذا باع اللقطة بأمر القاضي لم يكن لصاحبها إذا حضر إلا الثمن كما لو باعها القاضي بنفسه ، وهذا لأن البيع نفذ بولاية شرعية فهو كبيع ينفذ بإذن المالك .

وإن كان باعها بغير أمر القاضي فالبيع باطل لحصوله ممن لا ولاية له على المالك بغير أمر معتبر شرعا ، ثم إن حضر صاحبها واللقطة قائمة في يد المشتري يخير بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن ، وبين أن يبطل البيع ويأخذ عين ماله ; لأن البيع كان موقوفا على إجازته كما لو كان حاضرا حين باعه غيره بغير أمره ، فإن كان قد هلكت اللقطة في يد المشتري فصاحبها بالخيار إن شاء ضمن البائع القيمة لوجود البيع والتسليم منه بغير إذنه ، وإن شاء ضمن المشتري بقبضه ملكه بنفسه بغير رضاه ، فإن ضمن البائع كان الثمن للبائع لأنه ملكه بالضمان فينفذ البيع من جهته ، ولكن يتصدق بما زاد على القيمة من الثمن ; لأنه حصل له بكسب خبيث فإن قيل : الضمان إنما يلزمه بالتسليم ، والبيع كان سابقا عليه كيف ينفذ البيع من جهته بأداء الضمان . ؟ قلنا : لا كذلك بل كما رفعه ليبعه بغير أمر القاضي صار ضامنا بمنزلة المودع يبيع الوديعة ، ثم يضمن قيمتها ، فإن البيع ينفذ من جهته بهذا الطريق ، وهو أنه كما رفعها إلى البيع صار ضامنا فيستند ملكه إلى تلك الحالة ، فإن ضمن المشتري قيمتها رجع بالثمن على البائع ; لأن استرداد القيمة منه كاسترداد العين فيبطل البيع به ، وليس له أن يجيز البيع بعد هلاك السلعة ; لأن الإجازة في حقه بمنزلة ابتداء التمليك ، فلا يصح إلا في حالة بقاء المعقود عليه ، ولو كان المعقود عليه قائما في يده ، وقد قبض الملتقط الثمن ، وقد هلك في يده ، ثم أجاز البيع نفذ لقيام المعقود عليه ، وكان الملتقط أمينا في الثمن ; لأن إجازته في الانتهاء كإذنه في الابتداء .

التالي السابق


الخدمات العلمية