صفحة جزء
كتاب الإباق

( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد : رحمه الله اعلم بأن الإباق تمرد في الانطلاق وهو من سوء الأخلاق ، ورداءة في الأعراق يظهر العبد عن سيده فرارا ليصير ماله ضمارا ، فرده إلى مولاه وإعادته إلى مثواه إحسان وامتنان ، وإنما جزاء الإحسان إلا الإحسان ، فالكتاب لبيان الجزاء المستحق للراد في الدنيا مع ما له من الأجر في العقبى بإغاثة اللهفان ومنع المعتدي [ ص: 17 ] عن العدوان ; ولهذا بدأ بحديث سعيد بن المرزبان عن أبي عمرو الشيباني قال : كنت جالسا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فجاء رجل فقال : إن فلانا قدم بإباق من القوم ، فقال القوم : لقد أصاب أجرا ، فقال عبد الله رضي الله عنه وجعلا إن شاء من كل رأس أربعين درهما وفي هذا الحديث بيان أن الراد مثاب ; لأن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لم ينكر عليهم إطلاق القول بأنه أصاب أجرا ، وفيه دليل على أنه يستحق الجعل على مولاه ، وهو استحسان أخذ به علماؤنا رحمهم الله . وفي القياس لا جعل له ، وهو قول الشافعي رضي الله عنه ; لأنه تبرع بمنافعه في رده على مولاه ، ولو تبرع عليه بعين من أعيان ماله لم يستوجب عليه عوضا بمقابلته فكذلك إذا تبرع بمنافعه ، ولأن رد الآبق نهي عن المنكر ; لأن الإباق منكر ، والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم ، فلا يستوجب بإقامة الفرض جعلا ، ولكنا تركنا هذا القياس لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم ، فقد اتفقوا على وجوب الجعل ; لأن ابن مسعود رضي الله عنه قال في مجلسه ما قال ، وقد اشتهر عنه ذلك لا محالة ، ولم ينكر عليه أحد من أقرانه ، وقد عرض قوله عليهم لا محالة . والسكوت بعد ذلك عن إظهار الخلاف لا يحل لمن يعتقد خلافه ، فمن هذا الوجه يثبت الإجماع منهم ثم هم اتفقوا على أصل وجوب الجعل ، وإن اختلفوا في مقداره فقال عمر رضي الله عنه دينار أو اثنا عشر درهما ، وقال علي رضي الله عنه دينار أو عشرة دراهم ، وقال عمار بن ياسر رضي الله عنه إذا أخذه في المصر فله عشرة دراهم أو دينار ، وإن أخذه في غير المصر فله أربعون درهما فقد اتفقوا على وجود أصل الجعل ، وكفى بإجماعهم حجة ، والأصل أن الصحابة رضي الله عنهم متى اختلفوا في شيء فالحق لا يعدوهم ، وليس لأحد أن يترك جميع أقاويلهم برأيه ، ولكن يرجح قول البعض على البعض ، فنحن أخذنا بقولهم في إيجاب أصل الجعل ، ورجحنا قول ابن مسعود رضي الله عنه في مقداره .

( فإن قيل : ) كان ينبغي أن يؤخذ بالأقل في المقدار ; لأنه متيقن به . ( قلنا : ) إنما لم يؤخذ بالأقل ; لأن التوفيق بين أقاويلهم ممكن بأن يحمل قول من أفتى بالأقل على ما إذا رده مما دون مسيرة سفر ، وقول من أفتى بالأكثر على ما إذا رده من مسيرة سفر كما فسره عمار بن ياسر رضي الله عنه ، فإن قوله إن أخذه في المصر كناية عما دونه مسيرة سفر ، وإن أخذه خارج المصر كناية عن مسيرة سفر ، ومتى أمكن التوفيق بين أقاويلهم وجب المصير إليه ، ثم الأخذ بالأقل إنما يكون فيما يقولونه بآرائهم ، ونحن نعلم أنهم ما قالوا هذا بالرأي ; لأنه خلاف القياس ; ولأن نصب [ ص: 18 ] المقادير بالرأي لا يكون ، ولا طريق لما ثبت عنهم من الفتوى إلا الرأي أو السماع ممن ينزل عليه الوحي ، فإذا انتفى أحدهما هنا تعين الآخر ، وصار كأن كل واحد منهم روى ما قاله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمثبت للزيادة من الأخبار عند التعارض أولى فلهذا أخذنا بالأكثر هذا هو النهاية في التمسك بالسنة ، والأخذ بأقاويل الصحابة رضي الله عنهم ، فقد قامت الشريعة بفتواهم إلى آخر الدهر ، وليس لأحد أن يظن بهم إلا أحسن الوجوه ، ولكنه بحر عميق لا يقطعه كل سابح ، ولا يصيبه كل طالب ، وليس في هذا الباب شيء من المعنى سوى ما ذكره عن إبراهيم قال : كي يرد بعضهم على بعض ، معناه أن الراد يحتاج إلى معالجة ومؤنة في رده ، وقلما يرغب الناس في التزام ذلك خشية ، ففي إيجاب الجعل للراد ترغيب له في رده وإظهاره الشكر في المردود عليه لإحسانه إليه ، إلا أن إبراهيم كان يستحب ذلك ، ولا يوجبه على ما روي عنه ، أنه كان يستحب أن يرضخ للذي يجيء بالآبق ، ولم نأخذ بقوله في هذا ، وإنما نأخذ بقول شريح والشعبي رحمهما الله فقد قال الشعبي رحمه الله للراد دينار إذا أخذه خارجا من المصر ، وقال شريح رحمه الله له أربعون درهما فنأخذ بذلك ، ويحمل ما نقل عن الشعبي على ما إذا رده مما دون مسيرة السفر ، ويستقيم الاحتجاج بقول شريح رحمه الله في هذا ونحوه ; لأن الصحابة رضي الله عنهم قلدوه القضاء وسوغوا له المزاحمة معهم في الفتوى ، ألا ترى أنه خالف عليا رضي الله عنه في رد شهادة الحسن رضي الله عنه ، وأن مسروقا رحمه الله خالف ابن عباس رضي الله عنهما في موجب النذر بذبح الولد ، ورجع ابن عباس رضي الله عنهما إلى قوله ، فعرفنا أن من كان بهذه الصفة فقوله كقول الصحابي ثم الشافعي استحسن برأيه في هذه المسألة من وجه فقال : لو كان المولى خاطب قوما فقال : من رد منكم عبدي فله كذا فرده أحدهم استوجب ذلك المسمى ، وهذا شيء يأباه القياس ; لأن العقد مع المجهول لا ينعقد ، وبدون القبول كذلك ، ولا شك أن الاستحسان الثابت باتفاق الصحابة رضي الله عنهم خير من الاستحسان الثابت برأي الشافعي رضي الله عنه ، ولا حجة له في قوله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير } لأن ذلك كان خطابا لغير معين ، وهو لا يقول به ، فإنه لو قال : من رده فله كذا ولم يخاطب به قوما بأعيانهم فرده أحدهم لا يستحق شيئا ، ثم هذا تعليق استحقاق المال بالخطر وهو قمار ، والقمار حرام في شريعتنا ، ولم يكن حراما في شريعة من قبلنا .

( وإن قال : ) اعتبر قول المالك لإثبات أمره بالرد للذين خاطبهم ثم المأمور من جهة الغير [ ص: 19 ] يرجع عليه بما لحقه من المؤنة في ذلك .

( قلنا : ) لو كان هذا معتبرا لرجع عليه بما لحق فيه من المؤنة دون المسمى ثم الأمر هنا ثابت أيضا بدون قوله ، ألا ترى أن العبد الهارب من مولاه ما دام بمرأى العين منه ينادي مولاه على أثره خذوه فعرفنا بهذا أنه أمر لكل من يقدر على أخذه ورده على أن يرده عليه ، والأمر الثابت دلالة بمنزلة الأمر الثابت إفصاحا ، ثم ذكر عن الشعبي في رجل أخذ غلاما آبقا فأبق منه قال : لا ضمان عليه ، وذكر بعده عن جرير بن بشير عن أشياخ من قومه قال : أخذ مولى للحي آبقا فأبق منه نحو حي فكتب إلى مولاه أن يأتي أهله فيجتعل له منهم ففعل ذلك ، ثم كتب إليه فأقبل بالعبد فأبق منه ، فاختصموا إلى شريح فضمنه إياه ، ثم اختصموا إلى علي رضي الله عنه فقال : يحلف العبد الأحمر للعبد الأسود بالله ما أبق منه ، ولا ضمان عليه ، وإنما نأخذ بحديث علي رضي الله عنه والشعبي فنقول : لا ضمان عليه إذا أخذه للرد على مولاه ; لأنه أخذه بإذن مولاه كما بينا وفي هذا دليل على أن الراد يستوجب الجعل ، وكان ذلك أمرا ظاهرا حتى لم يخف على مواليهم حين كتب الآخذ إلى مولاه أن يأتي أهله فيجتعل له منهم ، إلا أنه كان من مذهب شريح تضمين الأجير المشترك فيما يمكن التحرز عنه ، والمستوجب للجعل بمنزلة الأجير المشترك فلهذا ضمنه ، وكان من مذهب علي رضي الله عنه أنه لا يضمن الأجير المشترك كما ذكر عنه في كتاب الإجارات في إحدى الروايتين ، ولكن القول قوله مع يمينه .

( وقوله ) يحلف العبد الأحمر يريد به الراد سماه أحمر لقوته وقدرته على أخذ الآبق ، وسمى الآبق أسود لخبث فعله ، وهو من دعابة علي رضي الله عنه قال : وإذا أتي الرجل بعبد آبق فأخذه السلطان فحبسه فجاء رجل وأقام البينة أنه عبده ، فإنه يستحلف بالله ما بعته ولا وهبته ثم يدفع إليه أولا . نقول : ينبغي للراد أن يأتي به السلطان بخلاف ما سبق في اللقطة ; لأنه يقدر على حفظها بنفسه ، ولا يقدر على حفظ الآبق بنفسه عادة فرفعه إلى السلطان لهذا ; ولأنه يستوجب التعزير على إباقه فيرفعه إلى السلطان ليعزره ، ويأخذه السلطان منه ليحبسه ، وذلك نوع تعزير ، ثم من يدعيه لا يستحقه بدون البينة ، فإذا أقام البينة فقد أثبت ملكه فيه بالحجة إلا أنه يحتمل أن يكون باعه أو وهبه ولا يعرف الشهود ذلك فيستحلفه على ذلك .

( فإن قيل : ) كيف يستحلفه وليس هنا خصيم يدعي ذلك . ؟ ( قلنا : ) يستحلفه صيانة لقضاء القاضي ، والقاضي مأمور بأن يصون قضاءه عن أسباب الخطأ بحسب الإمكان ، أو يستحقه نظرا لمن هو عاجز عن النظر لنفسه من مشتر أو موهوب له ، فإذا [ ص: 20 ] حلف دفعه إليه ، ولا أحب أن يأخذ منه كفيلا ، وإن أخذ منه كفيلا لم يكن مسيئا ، ولكن إن لم يأخذ أحب إلي ، هذه رواية أبي حفص ، وفي رواية أبي سليمان قال : أحب إلي أن يأخذ منه كفيلا ، وإن لم يأخذ منه كفيلا وسعه ذلك . من أصحابنا من قال : ما ذكر في رواية أبي حفص قول أبي حنيفة رحمه الله ، فإنه لا يرى أخذ الكفيل للمجهول كما قال في الجامع الصغير في أخذ الكفيل من الوارث ، هذا شيء احتاطه بعض القضاة وهو ظلم ، وما قاله في رواية أبي سليمان رحمه الله قولهما ; لأنهما يجوزان للقاضي أن يحتاط بأخذ الكفيل صيانة لقضاء نفسه ، أو نظرا لمن هو عاجز عن النظر لنفسه ، والأصح أن فيه روايتين ، وما ذكر في رواية أبي سليمان أقرب إلى الاحتياط ، فربما يظهر مستحق يقيم البينة على الولادة في ملكه فيكون مقدما على من أقام البينة على الملك المطلق ، أو يقيم البينة على الملك المطلق فيكون مزاحما له ، أو يقيم البينة على أنه اشتراه منه فالمستحب أن يأخذ منه كفيلا لهذا ، ولكنه موهوم لم يقم عليه دليل فكان في سعة من أن لا يأخذ منه كفيلا . وما ذكر في رواية أبي حفص أقرب إلى القياس ; لأن استحقاقه ثابت بما أقام من البينة ، واستحقاق غيره موهوم ، والموهوم لا يقابل المعلوم ، فلا يستحب للقاضي ترك العمل إلا بحجة معلومة لأمر موهوم ، أرأيت لو لم يعطه كفيلا . أو لم يجد كفيلا ، أكان يمتنع القاضي من القضاء به له ، وقد أقام البينة ، ولكنه لو أخذ منه كفيلا فهو فيما صنع محتاط مجتهد فلا يكون مسيئا ، وإن لم يكن للمدعي بينة وأقر العبد أنه عبده ، فإنه يدفعه إليه ويأخذ منه كفيلا .

أما الدفع إليه فلأن العبد في يد نفسه ، وقد أقر بأنه مملوك له ، ولو ادعى أنه حر كان قوله مقبولا ، فكذلك إذا أقر أنه مملوك له يصح إقراره في حق نفسه ; لأنه لا منازع لهما فيما قالا ، وخبر المخبر محمول على الصدق ما لم يعارضه مثله ، ولكن يأخذ منه كفيلا ; لأن الدفع إليه بما ليس بحجة على القاضي ، فلا يلزمه ذلك بدون الكفيل ، بخلاف الأول فالدفع هناك ليس بحجة ثابتة في حق القاضي ، يوضحه أن قول العبد بعد إقراره بالرق في تعيين مالكه غير مقبول ، ألا ترى أنه لو كان في يد رجلين ، وأقر بالملك لأحدهما لم يصح إقراره ، وكان بينهما فكذلك لا يصح إقراره في استحقاق اليد الثابتة للقاضي بعد ما أقر برقه ، فلا بد من أن يأخذ منه كفيلا بحق نفسه حتى إذا حضر مالكه وأراد أن يضمنه يمكن من أخذ الكفيل ليحضره فيخلصه من ذلك ، فأما إذا أقام البينة فقد أثبت استحقاق اليد على القاضي ، ولا يلحق القاضي ضمان في الدفع إليه بحجة البينة ; فلهذا لا يحتاط بأخذ الكفيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية