صفحة جزء
وإذا أبق العبد المأذون ثم اشترى وباع لم يجز ، وقد صار محجورا عليه استحسانا ، وفي القياس لا يصير محجورا عليه ، وهو قول زفر رحمه الله ; لأن ما به صح إذن المولى وهو قيام ملكه في رقبته لا ينعدم بالإباق ; لأن الإباق لا ينافي ابتداء الإذن ، فلا ينافي البقاء بطريق الأولى .

وجه الاستحسان أن المولى إنما يرضى بتصرفه ما دام تحت طاعته ولا يرضى به بعد تمرده وإباقه ، فإما أن يتقيد الإذن المطلق بما قبل الإباق لدلالة العرف أو يصير محجورا بعد الإباق لدلالة الحجر ، فإن المولى لو ظفر به أدبه وحجر عليه ، ودلالة الحجر كالتصريح بالحجر ، كما أن دلالة الإذن كالتصريح بالإذن ، ولهذا صح إذن الآبق ابتداء ; لأن الدلالة يسقط اعتبارها عند التصريح بخلافها ، ألا ترى أن تقديم المائدة بين يدي إنسان يكون إذنا له في التناول دلالة ، فإن قال : لا يأكل بطل حكم ذلك الإذن للتصريح بخلافه ، ثم المولى لو ظفر به أدبه وحبسه وحجر عليه ، فهو وإن عجز عن تأديبه فالشرع ينوب عنه في الحجر عليه كالمرتد اللاحق بدار الحرب . يموته الإمام حكما فيقسم ماله بين ورثته ; لأنه لو قدر عليه قتله ، فإذا عجز عن ذلك جعله الشرع ميتا حكما فهذا مثله ، والحكم في جناية الآبق والجناية عليه وفي حدوده كالحكم فيها في المصر ; لأن الرق فيه باق بعد الإباق ، وملك المولى قائم فيه ، وباعتباره يخاطب بالدفع أو الفداء عند قدرته عليه ، فإذا قامت البينة عليه بالسرقة لم يقطعه الإمام حتى يحضر مولاه ، فإذا حضر قطعه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ، وقال أبو يوسف رحمه الله يقطعه ، ولا ينتظر حضور مولاه ، وكذلك إذا قامت البينة عليه بسائر الأسباب الموجبة للعقوبة من حد أو قصاص فهو على هذا الخلاف .

وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن العبد في الأسباب الموجبة للعقوبة كالحر بدليل أنه يصح إقراره بها على نفسه ، ولا يصح إقرار المولى عليه بذلك ، وفيما كان هو بمنزلة الحر لا يشترط حضور المولى للقضاء عليه بالبينة كالطلاق ، وهذا لأن التزام العقوبة باعتبار معنى النفسية دون المالية ، وحق المولى في ملك المالية فبقي هو في النفسية على أصل الحرية [ ص: 24 ] لأن العقوبة تثبت عليه بالبينة تارة وبالإقرار تارة ، ثم فيما يثبت بإقراره لا يشترط حضور المولى للاستيفاء فكذلك فيما يثبت بالبينة بل أولى ; لأن البينة حجة متعدية إلى الناس كافة ، والإقرار حجة قاصرة في حق المقر خاصة . وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن في إقامة الحد عليه تفويت حق المولى ، فلا يجوز إلا بمحضر منه ; لأن العبد ليس بخصم عنه ، والقضاء على غير خصم حاضر بتفويت حقه لا يجوز ، وبيان هذا أن للمولى حق الطعن في الشهود حتى لو كان حاضرا كان طعنه مسموعا ، ففي إقامة العقوبة تفويت حق المطعون عليه ، والدليل عليه أن العبد لو كان كافرا ومولاه مسلما لم تقبل شهادة الكفار عليه بالأسباب الموجبة للعقوبة ، ولو لم يكن للمولى حق في هذه البينة لكان لا يعتبر دينه في ذلك ، والعبد ليس بخصم عن المولى ; لأنه خصم باعتبار معنى النفسية ، ولا حق للمولى في ذلك ، فلا ينتصب خصما عنه ، وبه فارق الإقرار ، فإنه ليس للمولى حق الطعن في إقراره ، فلا يكون في إقامة العقوبة عليه بالإقرار تفويت حق المولى ، ولأن وجوب العقوبة عليه باعتبار معنى النفسية ، ولكن في الاستيفاء إتلاف مالية المولى ، والبينة لا توجب شيئا بدون القضاء ، والاستيفاء في العقوبات من تتمة القضاء ، ألا ترى أن المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء يجعل كالمقترن بأصل القضاء حتى يمتنع الاستيفاء به ، فإذا كان تمام قضائه متناولا حق المولى يشترط حضور المولى في ذلك ، بخلاف الإقرار فإنه موجب بنفسه قبل قضاء القاضي .

وولاية الاستيفاء تثبت بتقرر الوجوب فلا يشترط فيه حضور المولى ، وإذا أخذ العبد الآبق ، وحبس في بلد فتقدم مولاه إلى قاضي بلدته ، وأقام عليه شاهدين ، وطلب أن يكتب به إلى قاضي البلد الذي هو فيه لم يجبه إلى ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ، ولو فعل لم يقض القاضي المكتوب إليه بذلك الكتاب ، وعلى قول أبي يوسف يجيبه إلى ذلك بطريق يذكره ، وهو قول ابن أبي ليلى ، والحاصل أن كتاب القاضي إلى القاضي في الديون صحيح بالاتفاق ، وكذلك في العقار ; لأن إعلامها في الدعوى والشهادة تذكر الحدود دون الإشارة إلى العين ، وفي العروض من الدواب والثياب لا يجوز كتاب القاضي إلى القاضي بالاتفاق ; لأنه لا بد من إشارة الشهود إلى العين للقضاء بشهادتهم ، وذلك ينعدم في كتاب القاضي إلى القاضي ، فأما في العبيد والجواري فلا يجوز كتاب القاضي عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أيضا وهو القياس ; لأنه لا بد من إشارة الشهود إلى العين ليثبت الاستحقاق بشهادتهم ; ولهذا لو كان حاضرا في البلدة لا يسمع الدعوى والشهادة إلا بعد [ ص: 25 ] إحضاره ، فلا يجوز فيه كتاب القاضي إلى القاضي كما في سائر العروض ، ولكن استحسن أبو يوسف في العبيد قال : العبد قد يأبق من مولاه ، وقد يرسله مولاه في حاجة من بلد إلى بلد فيمتنع من الرجوع إليه ، ويتعذر على المولى الجمع بين شهوده وبينه في مجلس القاضي ، فلو لم يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي أدى إلى إتلاف أموال الناس ، فكان قبول البينة بهذه الصفة أرفق بالناس ، وما كان أرفق بالناس فالأخذ به أولى ; لأن الحرج مدفوع ، وكان يقول مرة في الجارية أيضا : يقبل كتاب القاضي إلى القاضي ، ثم رجع فقال : لا يقبل في الجارية ; لأن باب الفروج مبني على الاحتياط ، ولأن هذه البلوى تقل في الجواري فالمولى لا يرسلها من بلد إلى بلد عادة ، والإباق في الجواري يندر أيضا .

ثم بيان مذهبه أن المدعي يقيم عند القاضي شاهدين على حليته وصفته ، وأنه مملوك له فيكتب له بذلك إلى قاضي البلد الذي هو فيه محبوس ، فإذا ثبت الكتاب عند ذلك القاضي بشهادة الشهود عليه وعلى الختم ، ووافق حلية العبد وصفته ما في الكتاب دفع إليه من غير أن يقضى له بالملك ، ويختم في عنقه بالرصاص للإعلام ، ويأخذ من المدعي كفيلا ، ثم يأتي به المدعي إلى البلد الذي فيه شهوده ، ويكتب معه كتابا إلى ذلك القاضي فإذا أتى به إلى هذا القاضي أعاد شهوده ليشهدوا بالإشارة إلى العبد أنه ملكه وحقه ، فإذا شهدوا بذلك قضى له بالعبد ، وكتب إلى ذلك القاضي بما ثبت عنده ليبرئ كفيله . وفي الجواري على قوله الأول : لا يدفعها إليه القاضي المكتوب إليه أولا ، ولكنه يبعث بها معه على يد أمين ; لأنه لو دفعها إليه لا يمتنع من وطئها ، وإن كان أمينا في نفسه ; لأنه يزعم أنها مملوكته ، ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا : هذا استحسان فيه بعض القبح ، فإنه إذا دفع إليه العبد يستخدمه قهرا أو يستغله فيأكل من غلته قبل أن يثبت ملكه فيه بقضاء القاضي ، وربما يظهر العبد لغيره إذا جاء به إلى القاضي الكاتب فالحلية والصفة تشتبه ، ألا ترى أن الرجلين المختلفين قد يتفقان في الحلية والصفة ، أرأيت لو كانت جارية حسناء أكان يبعث بها مع رجل لم يثبت له فيها حق هذا قبح ، فلهذا أخذنا بالقياس ، فإن كان القاضي باع العبد الآبق حين طال حبسه ، وأخذ ثمنه ، وهلك العبد عند المشتري ، ثم ادعاه الرجل ، وأقام البينة أن عبدا اسمه كذا ، وكذا عبده فوافق ذلك صفة العبد الذي باعه القاضي لم يقبل ذلك ، ولا يدفع إليه الثمن لأن شهوده لم يشهدوا على استحقاق ما في يد القاضي من الثمن ، إنما شهدوا على الاسم والحلية ، والاسم يوافق الاسم والحلية توافق الحلية إلا أن يشهدوا أن العبد [ ص: 26 ] الآبق الذي باعه القاضي من هذا الرجل هو عبد هذا فحينئذ يقضي له القاضي بالثمن ; لأنه أثبت الملك في ذلك العبد بعينه ، والبدل إنما يملك بملك الأصل .

وكذلك إن لم يبعه حتى قتل فأقام المدعي البينة أن المقتول عبده ، فإنه يقضي له بالقيمة ; لأن القيمة والثمن كل واحد منهما بدل عن العبد ، واستحقاق البدل باستحقاق الأصل .

التالي السابق


الخدمات العلمية