صفحة جزء
كتاب الغصب ( قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة السرخسي إملاء : ) ( اعلم ) بأن الاغتصاب أخذ مال الغير بما هو عدوان من الأسباب ، واللفظ مستعمل لغة في كل باب مالا كان المأخوذ أو غير مال . يقال : غصبت زوجة فلان وولده ، ولكن في الشرع تمام حكم الغصب يختص بكون المأخوذ مالا متقوما . ثم هو فعل محرم ; لأنه عدوان وظلم ، وقد تأكدت حرمته في الشرع بالكتاب والسنة .

أما الكتاب فقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقال تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } وقال صلى الله عليه وسلم : { لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه } وقال صلى الله عليه وسلم : { سباب المسلم فسق ، وقتاله كفر ، وحرمة ماله كحرمة نفسه } وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته : { ألا إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا } ( فثبت ) أن الفعل عدوان محرم في المال كهو في النفس ; ولهذا يتعلق به المأثم في الآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم : { من غصب شبرا من أرض طوقه الله تعالى يوم القيامة من سبع أرضين } إلا إن المأثم عند قصد الفاعل مع العلم به .

فأما إذا كان مخطئا بأن ظن المأخوذ ماله أو كان جاهلا بأن اشترى عينا ثم ظهر استحقاقه لم يكن آثما لقوله صلى الله عليه وسلم : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان } والمراد المأثم .

فأما حكمه في الدنيا فثابت سواء كان آثما فيه أو غير آثم ; لأن ثبوت ذلك لحق صاحبه وحقه مرعي ، وإن الآخذ معذور شرعا لجهله وعدم قصده ، والحكم الأصلي الثابت بالغصب وجوب رد العين على المالك بقوله صلى الله عليه وسلم : { على اليد ما أخذت حتى ترد } وقال صلى الله عليه وسلم : { لا يحل لأحد أن يأخذ متاع أخيه لاعبا ، ولا جادا ، فإن أخذه فليرده عليه } وقال صلى الله عليه وسلم : { من وجد عين ماله فهو أحق به } ومن ضرورة كونه أحق بالعين وجوب الرد على الآخذ ، والمعنى فيه أنه مفوت عليه يده بالأخذ ، واليد لصاحب المال في ماله مقصود به يتوصل إلى التصرف والانتفاع ويحصل ثمرات الملك ، فعلى المفوت بطريق العدوان نسخ فعله ليندفع به الضرر والخسران عن صاحبه . وأتم [ ص: 50 ] وجوهه رد العين إليه ففيه إعادة العين إلى يده كما كان فهو الواجب الأصلي لا يصار إلى غيره إلا عند العجز عنه ، فإن عجز عن ذلك بهلاكه في يده بفعله أو بغير فعله فعليه ضمان المثل جبرانا لما فوت على صاحبه ; لأن تفويت اليد المقصودة كتفويت الملك عليه بالاستهلاك .

( ثم ) الملك نوعان كامل وقاصر ، فالكامل هو المثل صورة ومعنى . والقاصر هو المثل معنى أي في صفة المالية ، فيكون الواجب عليه هو المثل التام إلا إذا عجز عن ذلك فحينئذ يكون المثل القاصر خلفا عن المثل التام في كونه واجبا عليه .

وبيان هذا أن المغصوب إذا كان من ذوات الأمثال كالمكيل والموزون فعليه المثل عندنا . وقال نفاة القياس : عليه رد القيمة ; لأن حق المغصوب منه في العين والمالية ، وقد تعذر إيصال العين إليه فيجب إيصال المال إليه ، ووجوب الضمان على الغاصب باعتبار صفة المالية ، ومالية الشيء عبارة عن قيمته ، ولكنا نقول : الواجب هو المثل قال الله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وتسمية الفعل الثاني اعتداء بطريق المقابلة مجازا كما قال الله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } والمجازاة لا تكون سيئة ، وقد ثبت بالنص أن هذه الأموال أمثال متساوية قال صلى الله عليه وسلم : { الحنطة بالحنطة مثل بمثل } ولأن المقصود هو الجبران ، وذلك في المثل أتم ; لأن فيه مراعاة الجنس والمالية ، وفي القيمة مراعاة المالية فقط ، فكان إيجاد المثل أعدل إلا إذا تعذر ذلك بالانقطاع من أيدي الناس فحينئذ يصار إلى المثل القاصر ، وهو القيمة للضرورة ، ثم على قول أبي حنيفة رحمه الله تعتبر القيمة وقت القضاء ; لأن التحول إليه الآن يكون ، فإن المثل واجب في الذمة ، وهو مطلوب له حتى لو صبر إلى مجيء أوانه كان له أن يطالبه بالمثل ، فإنما يتحول إلى القيمة عند تحقق العجز عن المثل ، وذلك وقت الخصومة والقضاء بخلاف ما إذا كان المغصوب أو المستهلك مما لا مثل له ; لأن الواجب هناك ، وإن كان هو المثل عند أبي حنيفة ، ولكنه غير مطالب بأداء المثل بل هو مطالب بأداء القيمة بأصل السبب فيعتبر قيمته عند ذلك وأبو يوسف رحمه الله يقول : لما انقطع المثل فقد التحق بما لا مثل له في وجوب اعتبار القيمة ، والخلف إنما يجب بالسبب الذي يجب به الأصل وذلك الغصب ، فيعتبر قيمته يوم الغصب ومحمد يقول : أصل الغصب أوجب المثل خلفا عن رد العين ، وصار ذلك دينا في ذمته ، فلا يوجب القيمة أيضا ; لأن السبب الواحد لا يوجب ضمانين ، ولكن المصير إلى القيمة للعجز عن أداء المثل ، وذلك بالانقطاع عن أيدي الناس فيعتبر قيمته بآخر يوم كان موجودا فيه فانقطع .

التالي السابق


الخدمات العلمية