صفحة جزء
( رجل ) غصب دار رجل وسكنها ، فإن انهدمت من سكناه أو من عمله فهو ضامن لذلك ; لأنه متلف لما انهدم بفعله ، والإتلاف يتحقق في العقار كما في المنقول ، وإن انهدمت من غير عمله فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله ; لأن الغصب الموجب للضمان لا يتحقق عندهما في العقار ، والحكم ينبني على السبب وأصل المسألة ; لأن العقار لا يضمن بالغصب في القياس ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهم الله ، وفي الاستحسان يضمن ، وهو قول أبي يوسف الأول ومحمد والشافعي رحمه الله . حجتهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : { من غصب شبرا من أرض طوقه الله تعالى يوم القيامة من سبع أرضين } فقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم لفظ الغصب على العقار . وكذلك من حيث العرف يقال : غصب دار فلان ، ومن حيث الحكم دعوى الغصب في العقار تسمع حتى لا تندفع بإقامة ذي اليد البينة على أن يده يد أمانة ، وإذا ثبت أن الغصب يتحقق فيها يترتب عليه حكمه والمعنى فيه .

أما الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول : العقار يملك بالاستيلاء يدا فيضمن بالغصب يدا كالمنقول .

وبيان الوصف أن الغزاة إذا فتحوا بلدة يملكون عقارهم ، وتأثيره ما بينا على أصله أن حد الغصب التعدي بإثبات اليد لنفسه على مال الغير بغير حق ، وذلك يتحقق في العقار والمنقول جميعا ومحمد يقول : العقار يضمن بالعقد الجائز والفاسد فيضمن بالغصب كالمنقول ، وتحقيقه هو أن [ ص: 74 ] وجوب ضمان الغصب يعتمد تفويت يد المالك بالنقل ، ولكن فيما يتأتى ذلك فيه ، فأما فيما لا يتأتى يقام غيره مقامه لإثبات الحكم ، وهو الاستيلاء بأقصى ما يمكنه بالسكنى وإخراج المالك عنه ، كما أن شرط صحة الدعوى والشهادة الإشارة إلى العين في المنقول الذي يمكن إحضاره ، ثم في العقار لما تعذر ذلك يقام ذكر الحدود مقامه ، وشرط تمام الهبة القبض بعد القسمة فيما يتأتى فيه القسمة ، ثم فيما لا يحتمل القسمة تقام التخلية مقامه ; ولهذا سماه استحسانا ، ولا معنى لقولكم : إن فعله في المالك هنا يمنعه من أن يدخل ملكه فيسكن ; لأن ما هو المقصود بتفويت اليد ، وهو فوت منفعة الملك وثمراته عليه يحصل بهذا ، ويجوز إقامة فعله في غير المضمون مقام فعله في المضمون في إيجاب الضمان كحافر البئر في الطريق فعله في الأرض دون المار ، ثم يجعل ذلك قائما مقام فعله في المار الواقع في البئر في إيجاب الضمان عليه ، فهذا مثله أو أقوى منه .

وحجتنا في ذلك الحديث ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين جزاء غاصب العقار الوعيد في الآخرة ، ولم يذكر الضمان في الدنيا ، فذلك دليل على أن المذكور جميع جزائه ، ولو كان الضمان واجبا لكان الأولى أن يبين الضمان ; لأن الحاجة إليه أمس ، وإطلاق لفظ الغصب عليه لا يدل على تحقق الغصب فيه موجبا للضمان ; لأن في لسان الشرع حقيقة ومجازا ، ألا ترى أنه أطلق لفظ البيع على الحر بقوله : من باع حرا ، وهذا لا يدل على أن البيع الموجب لحكمه حقيقة يتصور في الحر ، وكذلك في عرف اللسان حقيقة ومجازا ، ألا ترى أنهم يطلقون لفظ السرقة على العقار كما يطلقون لفظ الغصب ، وقد ورد الشرع بذلك أيضا ، ثم لا يتحقق في العقار السرقة الموجبة لحكمها على أنا نقول : يتحقق أصل الغصب في العقار ، ولكن الغصب الموجب للضمان لا يتحقق ; لأنه مما لا ينقل ولا يحول . وبيان هذا أن الضمان إنما يجب جبرانا للفائت من يد المالك ، ولا يتحقق تفويت اليد عليه بفعل في المال بدون النقل والتحويل ; لأن يد المالك متى كانت ثابتة على ماله في مكان تبقى ما يبقى المال في ذلك المكان حكما إلا أن ينقله إلى غيره بمباشرة سببه ، ومن حيث الحقيقة الغاصب وإن سكن الدار فالمالك متمكن من أن يدخل فيسكن ، فإن منعه فذلك فعل في المالك لا في الملك ، وفعله في المالك لا يفوت يده عن المال ، فلا يكون سببا للضمان كما لو حبس المالك حتى تلفت مواشيه ; ولهذا لا يضمن المنقول بالتخلي به قبل النقل فكذلك العقار .

وإقامة الشيء الآخر مقام السبب الموجب للحكم طريق فيما يأذن الشرع فيه أن يوجبه [ ص: 75 ] الحكم ، فأما الغصب لا يأذن الشرع فيه ، والحكم يمنع منه فكيف يثبت بإقامة غيره مقامه حكما ، ولكن إن صادف الفعل محلا يتحقق فيه يثبت حكمه ، وإن صادف محلا لا يتحقق فيه لا يثبت الحكم كمن زنى برتقاء ، وأتى بما في وسعه من المعالجة لا يلزمه الحد ، وإن قضى شهوته ; لأن ما هو حد فعل الزنا لا يتحقق في هذا المحل ، فلا يشتغل بإقامة غيره مقامه ، ولا ينظر إلى تحصيل المقصود ، وبه فارق ضمان العقد ; لأن ذلك يوجبه الحكم فيجوز إثباته بطريق حكمي ، والعقد الفاسد معتبر بالجائز ; لأن الفاسد لا يمكن أن يجعل أصلا في معرفة حكمه ، فإن الشرع لا يرد بالعقد الفاسد ، وكذلك ذكر الحدود في الدعوى والشهادة يجوز أن تقوم مقام الإشارة في التعريف ; لأن ذلك مما يوجبه الحكم ، ويأذن فيه الشرع ، وكذلك القبض في باب الهبة ، فإن الشرع يأذن فيه فيصار إلى إيجاده بطريق التمكن ، ولو كان ما قال محمد رحمه الله تعالى من إقامة الفعل في المالك مقام الفعل في المال صحيحا لكان الأولى أن يصار إليه في المنقول ; لأن الحاجة إلى حفظ المنقول باليد أظهر منه إلى حفظ العقار ، ولا يوجب الضمان على الحافر بالطريق الذي قال بل بإقامة الشرط مقام السبب لما تعذر تعليق الحكم بالسبب ، وهو نقله في نفسه ، ومسببه إذا كان لا يعلم ، والحافر أوجد شرط الوقوع بإزالة السكة ، وإقامة الشرط مقام السبب عند تعذر تعليق الحكم بالسبب أصل في الشرع ، والإتلاف بهذا الطريق يتحقق ، فأما هنا الفعل في المالك ليس بشرط ولا سبب ، ولا يتحقق به تفويت اليد الثابتة حكما ، ألا ترى أن هناك مع أن الإتلاف يتحقق من الحافر بالمباشرة بأن يلقيه في البئر يقام الحفر مقامه ، وهنا فيما يتأتى الفعل حقيقة لا يقام الفعل في المالك مقام الفعل في المال .

ولا يدخل على هذا ما قاله في الزيادات إذا وهب الرجل دارا بما فيها من الأمتعة فهلكت الأمتعة قبل أن ينقلها الموهوب له ، ثم استحقت فللمستحق أن يضمن الموهوب له ; لأن في جواب تلك المسألة نظرا فقيل : هو مذهب محمد ، وقيل : لا يستقيم على أصل محمد أيضا ; لأنه يوافقنا في المنقول أنه لا يضمن قبل النقل ، وقد نص عليه في السير الكبير . ( ثم ) العذر أن الواهب نقل يده إلى الموهوب له ، ويد الواهب في الأمتعة كانت مفوتة ليد المالك فانتقلت بصفتها إلى الموهوب له .

( فإن قيل : ) أليس أنه لو اشترى منقولا وخلي بينه فهلك قبل النقل ، ثم جاء مستحق فليس له أن يضمن المشتري ، وهذا المعنى موجود فيه . ؟ ( قلنا : ) لا كذلك فالبيع يوجب الملك ، واليد للمشتري ، فلا يجعل يده كيد [ ص: 76 ] البائع ، فأما الهبة لا توجب التسليم إلى الموهوب له فيستقيم أن يجعل الواهب بالتسليم محولا يده إلى الموهوب له ، وبهذا الطريق للمالك أن يضمن غاصب الغاصب أيضا ; لأنه حول إلى نفسه يد الغاصب الأول ، وهي يد مفوتة ليد المالك فتحول إليه بصفته .

التالي السابق


الخدمات العلمية