صفحة جزء
. ولو اغتصب ثوبا فخرقه ، فإن كان خرقا صغيرا ضمن الغاصب النقصان فقط ، وأخذ صاحب الثوب ثوبه ; لأن العين قائم من كل وجه فبهذا القدر من الخرق لا يخرج من أن يكون صالحا لما كان صالحا قبله ، وإنما يتمكن في قيمته نقصان فيضمن ذلك النقصان ، وإن كان الخرق كبيرا ، وقد أفسد الثوب فصاحبه بالخيار إن شاء ضمن الغاصب قيمة ثوبه ; لأنه مستهلك من كل وجه ، فإنه لا يصلح بعد هذا الخرق لجميع ما كان صالحا قبله له ، وإن شاء أخذ الثوب لكونه قائما حقيقة ، وضمنه ما نقصه فعل الغاصب .

( وأما ) الدابة إذا غصبها فقطع يدها أو رجلها فلصاحبها أن يضمن الغاصب قيمتها بخلاف ما لو كان المغصوب عبدا أو جارية فيقطع منه يدا أو رجلا فهناك يأخذه مع أرش المقطوع ; لأن الآدمي بقطع طرف منه لا يصير مستهلكا لبقائه صالحا لعامة ما كان صالحا له من قبل . والدابة تصير مستهلكة بقطع طرف منها ، فإنه لا ينتفع بها بما هو المقصود من الحمل والركوب بعد هذا القطع ; فلهذا كان لصاحبها أن يتركها للغاصب ويضمنه قيمتها . وكذلك لو كانت بقرة أو جزورا فقطع يدها أو رجلها أو كانت شاة فذبحها ; لأن الذبح استهلاك من وجه ، فإنه يفوت به بعض ما كان مقصودا من النسل واللبن فلصاحبها أن يضمنه قيمتها إن شاء ، وإن شاء أخذ المذبوح مسلوخا كان أو غير مسلوخ ، وضمن الغاصب النقصان في ظاهر الرواية ، وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله لا يضمنه شيئا ; لأن الذبح والسلخ في الشاة زيادة ; ولهذا يلتزم بمقابلته العوض ، ولكن ما ذكره في ظاهر الرواية أصح ; لأنه زيادة من حيث التقرب إلى الانتفاع باللحم ، ولكنه نقصان بتفويت سائر الأغراض من الحيوان ، ولأجله يثبت الخيار فكان هذا والقطع في الثوب سواء يضمنه النقصان إن شاء .

( وإذا ) طحن الغاصب الحنطة فعليه مثلها ، والدقيق له عندنا . وسوى هذا عن أبي يوسف روايتان :

( إحداهما ) أن حق المغصوب منه لا ينقطع عن الدقيق لا على معنى أنه يتمكن من أخذه ، ولكن يباع فيشتري له به حنطة مثل حنطته ، وإن مات الغاصب فالمغصوب منه أحق به من سائر الغرماء ; لأنه زال ملكه [ ص: 87 ] ويده بسبب لم يرض به ، ولو زال ملكه بسبب هو راض به كالبيع لا ينقطع حقه ، وإذا أزيلت يده بغير رضاه بأن قبض المشتري المبيع بغير إذن البائع فهنا أولى أن لا ينقطع حقه .

( والرواية الأخرى ) أن ملكه لا يزول بل له الخيار ، وإن شاء ترك الدقيق ، وضمنه حنطة مثل حنطته ، وإن شاء أخذ الدقيق ، ولم يضمنه شيئا .

قال : أستحسن ذلك وأخالف فيه أبا حنيفة ; لأنه استقبح أن يأتي مفلس إلى كر حنطة إنسان فيطحنه ثم يهب الدقيق لابنه الصغير ، فلا يتوصل صاحب الحنطة إلى شيء ، فهذا قول الشافعي رحمه الله أيضا إلا أن عند الشافعي رحمه الله يأخذ الدقيق ، ويضمنه النقصان إن كان لما بينا أن على أصله تضمين النقصان مع أخذه العين في أموال الربا جائز ، وعند أبي يوسف لا يجوز ذلك كما هو مذهبنا .

ووجه هذا أن الدقيق عين شبه فيكون له أن يأخذه كما قبل الطحن ، وهذا لأن عمل الطحن في تفريق الأجزاء لا لإحداث ما لم يكن موجودا ، وتفريق الأجزاء لا يبدل العين كالقطع في الثوب ، والذبح والسلخ والتأريب في الشاة . والدليل عليه أن الدقيق جنس الحنطة ; ولهذا جرى الربا بينهما ، ولا يجري الربا إلا باعتبار المجانسة .

واستدل محمد رحمه الله في إملاء الكيسانيات لأبي حنيفة رحمه الله بالحديث الذي رواه أبو حنيفة عن عاصم بن كليب الجرمي عن أبي مرة عن أبي موسى { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ضيافة رجل من الأنصار فقدم إليه شاة مصلية فأخذ منها لقمة فجعل يلوكها ولا يسيغها فقال صلى الله عليه وسلم : إنها ذبحت بغير حق فقال الأنصاري : كانت شاة أخي ، ولو كانت أعز منها لم ينفس علي بها ، وسأرضيه بما هو خير منها إذا رجع قال صلى الله عليه وسلم : أطعموها الأسارى } . قال محمد يعني المحبوسين ، فأمره بالتصدق بها بيان منه أن الغاصب قد ملكها ; لأن مال الغير يحفظ عليه عينه إذا أمكن ، وثمنه بعد البيع إذا تعذر عليه حفظ عينه ، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتصدق بها دل أنه ملكها ، والخلاف في الفصلين سواء قال محمد وهذا الحديث جعله أبو حنيفة رحمه الله أصلا في أكثر مسائل الغصب ، والمعنى فيه أن هذا الدقيق غير الحنطة ، وهو إنما غصب الحنطة ، فلا يلزمه رد الدقيق كمن أتلف حنطة لا يلزمه رد الدقيق .

وبيان المغايرة أنهما غيران اسما ، وهيئة ، وحكما ، ومقصودا . وكذلك يتعذر إعادة الدقيق إلى صفة الحنطة . وتحقيقه أن الموجودات من المخلوقات تعرف بصورتها ومعناها ، فتبدل الهيئة والاسم دليل على أن المغايرة صورة ، وتبدل الحكم والمقصود دليل على المغايرة معنى ، وإذا ثبتت المغايرة فمن ضرورة ثبوت الثاني انعدام [ ص: 88 ] الأول لاستحالة أن يكون الشيء الواحد شيئين ، وإذا انعدم الأول بفعله صار ضامنا مثله ، وقد ملكه بالضمان فيجعل هذا الدقيق حادثا من ملكه فيكون مملوكا له أو يجعل حادثا بفعله ، وفعله سبب صالح لحكم الملك فيصير مضافا إليه ، ولكن بين الدقيق والحنطة شبهة المجانسة من حيث الصورة ، وهو أن عمل الطحن صورة تفريق الأجزاء ، وباب الربا مبني على الاحتياط لبقاء شبهة المجانسة من هذا الوجه جرى حكم الربا بخلاف القطع في الثوب ، والذبح في الشاة ، فإن بالذبح لا يفوت اسم العين يقال : شاة مذبوحة ، وشاة حية ، فبقيت مملوكة لصاحبها ، ثم بالسلخ والتأريب بعد ذلك لا يفوت ما هو المقصود بالذبح بل تحقق ذلك المقصود ، فلا يكون ذلك دليل تبديل العين ; فلهذا كان لصاحبها أن يأخذها ، ثم على قول زفر للغاصب أن يأكل هذا الدقيق ، وينتفع به قبل أن يؤدي الضمان ، وهو القياس ; لأن ملكه حادث بكسبه . وفي الاستحسان ، وهو قولنا ليس له أن ينتفع بما ما لم يؤد الضمان بالتراضي أو بقضاء القاضي ، أو يقضى عليه بالضمان لما بينا أن من حيث الصورة هذه أجزاء ملك المغصوب منه ، وهذه الصورة معتبرة فيما بني على الاحتياط ، والأكل مبني على ذلك ، فإنما يتم تحول حق المغصوب منه إلى الضمان بالاستيفاء أو بالقضاء فلهذا لا ينتفع به إلا بعده .

التالي السابق


الخدمات العلمية