صفحة جزء
فإن قال : بعثت بها إليك مع هذا الأجنبي أو استودعتها إياه ، ثم ردها علي ، فضاعت : " عندي " لم يصدق وهو ضامن لها ; لأنه أقر بوجود السبب الموجب للضمان عليه ثم ادعى ما يسقط عنه ، فلا يصدق - كالغاصب إذا ادعى رد المغصوب - فإن أقام البينة على ذلك برئ من الضمان ; لأنه أثبت البراءة بالحجة والثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم ، وهو مذهبنا ، فإن المودع إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق : يبرأ عن الضمان . " وعند الشافعي " : لا يبرأ ، وبيانه : في هذه المسألة ، وفيما إذا لبس ثوب الوديعة ثم نزعه ، فهلك . وحجة الشافعي قوله - صلى الله عليه وسلم - { : على اليد ما أخذت حتى ترد } . وهو حين أخذها للاستعمال صارت مضمونة عليه ، حتى لو هلكت في تلك الحالة : ضمنها ، فلا يبرأ إلا بالرد على المالك - ولم يوجد - ولأن الوديعة تضمن بالخلاف من طريق القول - وهو الجحود - تارة ، وبالخلاف من طريق الفعل أخرى ، ثم إذا ضمنها بالجحود لم يبرأ بذلك الخلاف ما لم يردها إلى المالك فكذلك بالاستعمال بل أولى ; لأن الاستعمال يتصل بالعين ، والجحود لا يتصل به . وقاس بالمستأجر للدابة إلى مكان : إذا جاوزه ثم عاد إليه لم يبرأ . وكذلك المستعير يعلم أنه أمين ضمن الأمانة بالخيانة ، ولأن المودع معير يده من المودع في الحفظ ، فإذا خالف فقد استرد يد عاريته ، وهو ينفرد به ، ثم إذا عاد إلى الوفاق فقد أراد إعادة يده ثانيا منه ، وهو لا ينفرد به ، ولأن موجب العقد هو الحفظ للمالك ، وبالخلاف [ ص: 115 ] يفوت موجب العقد ، إما لتركه الحفظ أصلا ، أو لتركه الحفظ للمالك حين حفظها لنفسه ; فلا يبقى العقد بعد فوات موجبه ، ولأن الإنسان إنما يأتمن الأمين على ماله - دون الخائن - ومطلق العقد يتقيد بدلالة العرف - كالشراء بمطلق الدراهم يتقيد بنقد البلد - وإذا تقيد العقد بما قبل الخلاف : لا يبقى بعده ، وحجتنا في ذلك : أن الإيداع مطلق فكان باقيا بعد الخلاف ، وبيان الوصف أنه قال : احفظ مالي ، أو قال : احفظه أبدا . ولا يشكل على أحد أن هذا اللفظ يتناول الحفظ قبل الخلاف وبعده ، ثم لم يبطل بالخلاف ; لأن بطلان الشيء بما هو موضع لإبطاله ، أو بما ينافيه ، والاستعمال ليس بموضع لإبطال الإيداع ، وهو لا ينافيه .

ألا ترى أن الأمر بالحفظ مع الاستعمال صحيح - ابتداء - بأن يقول للغاصب : أودعتك ، وهو مستعمل له ، والخلاف ليس يرد ; لأن الأمر قول ، ورد القول بقول مثله ، ولأن الخلاف يكون في حال غيبة المودع ، ولو قال : رددت الأمر في هذه الحالة : لم يرتد . ولأنه تصرف في حفظ الواجب بالأمر على خلاف ما يوجبه ، وليس بتصرف في الأمر وصحة الأمر ، كأن يكون الآمر أهلا له . وكون الحفظ مقصودا من المأمور ، ولم ينعدم شيء من ذلك - بخلاف الجحود - فإنه رد للأمر بعينه ; لأن الجاحد يكون متملكا للعين . والمالك في ملكه لا يكون مأمورا بالحفظ من جهة غيره . والدليل عليه : أوامر الشرع ، فالجحود فيها رد ، والخلاف لا يكون ردا ، حتى لو ترك صوما أو صلاة : لم يكفر .

( وكذلك ) في أوامر العباد إذا وكله ببيع عين بألف ، فباعه بخمسمائة ، وسلم : لم تبطل الوكالة مع تحقق الخلاف ، ومع أن الوكالة جائزة غير لازمة - كالإيداع - . وعذره أن البيع لا يستغرق المدة ، فالأمر به لا يبطل بالخلاف ، والحفظ يستغرق المدة ، فيبطل الأمر به إذا خالف في بعض المدة هنا وهناك حتى يصير ضامنا ، ويشكل بالاستئجار للحفظ ، فإنه يستغرق المدة ثم لا يبطل بالخلاف من طريق الفعل . وعذره عن الإجارة أنها لازمة حتى لا يبطل بالجحود ضعيف ; لأن بطلان العقد " عنده " بفوات المعقود عليه ، واللازم وغير اللازم فيه سواء . إنما يفترق اللازم وغير اللازم فيما هو رد ، ثم في الاستئجار العقد ورد على منفعة الحافظ في المدة ، والمنفعة تحدث شيئا فشيئا ، فبترك الحفظ في بعض المدة يبطل العقد في ذلك القدر ، ويكون باقيا فيما وراءه كبقاء المعقود عليه ، فكذلك في الحفظ بغير بدل .

فأما استئجار الدابة إلى مكان فقد قال بعض أصحابنا رحمهم الله : إن استأجرها ذاهبا وجائيا يبرأ عن الضمان بالعود إلى ذلك المكان ، فيصير ضامنا بالمجاوزة لوجود سبب الضمان ، ثم بالعود إلى ذلك المكان : لا يعود العقد بينهما . ولو سلمنا [ ص: 116 ] فنقول : العقد هناك يرد على منافع الدابة في ذلك المكان ، فبإخراج الدابة من ذلك المكان يفوت المعقود عليه أصلا ، وهنا العقد يرد على منفعة الحافظ ، وبالخلاف من طريق الفعل لم يفت جميع المعقود عليه ، إنما وقع التغير في التسليم في بعضه ; لأنه كان مأمورا بتسليم العين في المصر ، فإذا أخرجه يتغير التسليم ، من غير أن يفوت المعقود عليه ، حتى أن في الإجارة : لو حمل عليها حملا آخر في ذلك المكان ، ثم نزع : برئ عن الضمان لبقاء المعقود عليه ، وتمكن التغير كان في الاستيفاء ، ولأن المستأجر ضامن بالإمساك لا في المكان المأمور به ، وهو في الإمساك عامل لنفسه .

ألا ترى أنه لو أمسكها أياما في بيته : كان ضامنا . فلا يتحقق الرد منه بعد الخلاف إذا كان ممسكا لمنفعة نفسه ، فأما المودع لا يضمن بالإمساك ، بل بالاستعمال ، وقد زال ذلك كله ، حتى أن في الإجارة إذا لم يضمن بالإمساك : برئ بترك الخلاف ، على ما قال في الإجارات : إذا استأجرت المرأة ثوب صيانة لتلبسه أياما ، فلبست بالليل : كانت ضامنة ، فإذا جاء النهار برئت ; لأن الضمان عليها بالاستعمال ليلا - دون الإمساك - .

التالي السابق


الخدمات العلمية