صفحة جزء
( رجل ) استودع صبيا محجورا عليه مالا ، فاستهلكه : لم يضمن ، في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله . وهو ضامن في قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله . وجه قولهما : أن ضمان الاستهلاك ضمان فعل ، والصبي والبالغ فيه سواء ; [ ص: 119 ] لما بينا أن تحقق الفعل بوجوده .

ألا ترى أن الوديعة لو كانت عبدا ، أو أمة ، فقتلهما الصبي ، كان ضامنا بهذا الطريق . فكذلك في سائر الأموال . ولأن الإيداع من الصبي باطل ; لأنه استحفاظ من لا يحفظ ، فكأنه لم يودعه ولكنه جاء فأتلف ماله . واستحفاظ من لا يحفظ : تضييع للمال ، فكأنه ألقاه على قارعة الطريق ، ولو فعل ذلك فأتلفه صبي كان ضامنا ؟ فكذا هذا . وحجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ما قال في الكتاب : لأنه صبي ، وقد سلطه رب المال على ماله حين دفعه إليه .

( وفي ) تفسير هذا التسليط نوعان من الكلام ( أحدهما ) : أنه تسليط باعتبار العادة ; لأن عادة الصبيان إتلاف المال ; لقلة نظرهم في عواقب الأمور ، فهو لما مكنه من ذلك - مع علمه بحاله - يصير كالإذن له في الإتلاف . وبقوله : احفظ ، لا يخرج من أن يكون إذنا ; لأنه إنما يخاطب بهذا من لا يحفظ ، فهو كمقدم الشعير بين يدي الحمار ، وقال : لا تأكل ، بخلاف العبد والأمة ; لأنه ليس من عادة الصبيان القتل ; لأنهم يهابون القتل ، ويفرون منه ، فلا يكون إيداعه تسلطا على القتل - باعتبار عادتهم - . وهذا بخلاف الدابة ، فإن من عادتهم إتلاف الدواب ، ركوبا ، فيثبت التسليط في الدابة بطريق العادة ، وإلا صح أن تقول : معنى التسليط : تحويل يده في المال إليه ; فإن المالك - باعتبار يده - كان متمكنا من استهلاكه ، فإذا حول يده إليه ، صار ممكنا له من استهلاكه - بالغا كان المودع ، أو صبيا - إلا أنه بقوله : احفظ ، قصد أن يكون هذا التحويل مقصورا على الحفظ - دون غيره - وهذا صحيح في حق البالغ ، باطل في حق الصبي ; لأنه لما التزم بالعقد ، والصبي ليس من أهله ، فيبقى التسليط على الاستهلاك بتحويل اليد إليه مطلقا ، بخلاف العبد والأمة ، فإن المالك - باعتبار يده - ما كان متمكنا من قتل الآدمي ، فتحويل اليد إليه لا يكون تسليطا على قتله ; لأن الإيداع من المالك تصرف في ملكه ، والمملوك في حكم الدم مبقى على أصل الحرية ; فلا يتناوله الإيداع . والتسليط يثبت باعتباره ، بخلاف ما لو قال : اقتل عبدي ; لأن ذاك استعمال ، والاستعمال وراء التسليط ، فإن بعد الاستعمال إذا لحقه ضمان ، يرجع على المستعمل ، وبعد التسليط يسقط حق المسلط في التضمين - لرضاه به - ولا يثبت لأحد حق الرجوع عليه . ولهذا قلنا في هذا الموضع : إن الصبي المستهلك ، إذا ضمن للمستحق ، لا يرجع على المودع ، بخلاف ما لو قال له : أتلفه ، فذلك استعمال للصبي ، وهذا تسليط له بمنزلة قوله : أبحت لك أن تأكل هذا الطعام ، إن شئت ، ولو قال ذلك ، فأكله الصبي ، لم يضمن . ولو جاء مستحق وضمنه ، لم يرجع على الذي قال له ذلك ; فهذا مثله ، إلا أن أبا يوسف يقول : قوله : احفظه ، بمنزلة الاستثناء مما تناوله مطلق التسليم . [ ص: 120 ] والاستثناء تصرف من المستثني على نفسه في حقه ; فلا يعتبر لصحته حال المخاطب به ، أو ثبوت ولاية له عليه ، بل باستثنائه يخرج ما وراء الحفظ من هذا التسليط .

فإذا استهلكه الصبي كان مستهلكا بغير إذنه . ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يقولان : التسليط : بالفعل ، وهو نقل اليد إليه مطلقا . وقوله : احفظ ، كلام ، فلا يتحقق استثناؤه من الفعل المطلق ، بل يكون معارضا لذلك الفعل الذي هو تسليط ، ولا يكون معارضا إلا بعد صحته حكما ; لكون المخاطب من أهل الالتزام بالعقد ، وذلك في حق البالغ دون الصبي ، فيبقى التسلط في حق الصبي . والدليل عليه : أن الصبي لو ضيع الوديعة ، لم يضمن ; بأن رأى إنسانا يأخذها ، أو دله على أخذها ، والبائع يضمن - بمثله - . فعرفنا أن العارض صحيح في حق البالغ - دون الصبي - . وعلى هذا : لو أودع عبدا ، محجورا عليه ، مالا فاستهلكه : لم يضمن ، عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى يعتق ; لأن العارض صحيح في حقه دون المولى فإنه التزام بالعقد . وعلى قول أبي يوسف : يباع فيه في الحال ; لأن المودع يتصرف على نفسه في الاستثناء ; فيبقى الاستهلاك بغير إذنه .

فإن كان العبد صبيا لم يضمن " عندهما " في الحال ، ولا بعد البلوغ والعتق ; لأن العارض لم يصح في حقه ولا في حق المولى . وإن كان الصبي ، أو العبد مأذونا ، كان ضامنا في الحال ; لأن العارض قد صح في حقهما ، وفي حق المولى ; فالمأذون من أهل الالتزام بالعقد ، ولهذا يؤاخذان بضمان التضييع . وعلى هذا : الخلاف لو أقرض صبيا محجورا عليه ، أو عبدا محجورا عليه ، مالا فاستهلكه ; لأن التسليم إليه تسليط . وقوله : أقرضتك : معارض لقوله : احفظ في الوديعة - على ما بينا - ، وكذلك لو باع من صبي محجور عليه ، أو عبد محجور عليه شيئا ، فاستهلكه ، فهو على هذا الخلاف ; لأن التسليم إليهما تسليط . وقوله : بعت ، معارض فلا يعمل هذا المعارض في حق الصبي أصلا ، ولا في حق العبد حتى يعتق ، فهذا هو الحرف الذي يخرج عليه هذه المسائل .

( وإن ) هلكت الوديعة عند الصبي والعبد : فلا ضمان عليهما ; لانعدام صنيع موجب للضمان منهما . وفي قتل العبد والأمة يجب عليهما ما يجب قبل الإيداع ، فعلى عاقلة الصبي قيمة المقتول في ثلاث سنين - عمدا قتله أو خطأ ; لأن عمد الصبي وخطأه سواء - وعلى المملوك القصاص إن قتله عمدا ، وإن قتله خطأ : يخاطب المولى بالدفع ، أو الفداء في العبد ، وعليه القيمة في المدبر ، وأم الولد ، يعني الأقل من قيمة المقتول وقيمة القاتل . وعلى المكاتب أن يسعى في الأقل من قيمته ، ومن قيمة المقتول . ولو أودع رجلا شيئا فاستهلكه ابن له صغير ، أو عبد : فعلى المستهلك ضمانه في الحال ; [ ص: 121 ] لأن قبوله الوديعة يكون إذنا لمن في عياله بأن يحفظها . والصبي والعبد إذا كان مأذونا في حفظ الوديعة يؤاخذ بضمان الاستهلاك . .

التالي السابق


الخدمات العلمية