صفحة جزء
( فأما شركة المفاوضة ) فهي جائزة " عندنا " . وقال مالك رحمه الله تعالى : لا أعرف ما المفاوضة ، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : إن كان في الدنيا عقد فاسد فهو المفاوضة . وربما قال أنه نوع من القمار ، فأما مالك رحمه الله فإن كان لا يعرفها لغة فقد بينا اشتقاقها ، وإن كان لا يعرفها شرعا فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { تفاوضوا ; فإنه أعظم للبركة } . وقال عليه الصلاة والسلام { : إذا فاوضتم فأحسنوا المفاوضة } . وأما الشافعي رحمه الله فإنه ينبني على مذهبه أن الأصل شركة الملك ، وما هو موجب المفاوضة قط لا يثبت باعتبار شركة الملك ; فلهذا أفسدها ، وقال : لأنها تتضمن الكفالة بالمجهول للمجهول ; فإن كل واحد منهما يكون كفيلا عن صاحبه فيما يلزمه بجهة التجارة ، والكفالة للمجهول بالمعلوم باطل ، فبالمجهول أولى . والذي يقول إنه ضرب من القمار فإنما يدخل ذلك على مذهب الثوري ; لأنه يقول : إذا ورث أحدهما مالا يكون ذلك مشتركا بينهما ، ولسنا نقول بذلك ; فلا يدخل ذلك على مذهبنا ، وحجتنا في ذلك أن هذه الشركة تتضمن الكفالة والوكالة ، وكل واحد منهما صحيح مقصودا ، فكذلك في ضمن الشركة ، فأما الجهالة بعينها لا تبطل الكفالة ، ولكن تمكن المنازعة سببا ، وذلك منعدم هنا ; لأن كل واحد منهما إنما يصير ضامنا عن صاحبه ما لزمه بتجارته ، وعند اللزوم : المضمون له ، والمضمون به معلوم ، ومثل هذا لا يوجد في شركة العنان فإن التوكيل بشراء مجهول الجنس لا يصح مقصودا ، ثم صحت شركة العنان ، وإن تضمنت ذلك ; لأن ما يشتريه كل واحد منهما غير مسمى في العقد ، فكذلك المفاوضة . ومن شروط هذا العقد أن يتساويا في رأس المال ، ولا يختص أحدهما بملك مال يصلح أن يكون رأس ماله في الشركة من النقود ، وأن يتساويا في الربح فلا يشترط لأحدهما زيادة على صاحبه ; لما بينا أن قضية اللفظ المساواة . ثم في ظاهر هذه الرواية تصح هذه الشركة [ ص: 154 ] من غير خلط المالين ، والمالان لا يختلطان كالدراهم والدنانير ، والسود والبيض وزفر رحمه الله لا يجوز هذه الشركة بدون خلط المالين برواية واحدة ( قال ) : لأنه لو جاز لكان كل واحد منهما مختصا بملك مال بعد عقد الشركة ، وذلك لا يجوز في هذا العقد .

( وقد ) روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أن هذه الشركة لا تجوز بمالين لا يختلطان ; لأن المساواة شرط في هذا العقد ، والمساواة بين الدراهم والدنانير في المالية إنما تكون بالتقويم . وطريق ذلك الحرز . والمساواة شرعا لا تثبت بهذا الطريق كالمساواة التي تشترط في مبادلة الأموال الربوية بجنسها . وإن كان رأس مال أحدهما بيضا ، ورأس مال الآخر سودا ، وبينهما تفاوت في الصرف : لا يجوز هذا العقد في ظاهر الرواية ; لعدم المساواة .

( وذكر ) إسماعيل بن حماد عن أبي يوسف رحمهم الله أنه يجوز ; لأنه لا قيمة للجودة في الأموال الربوية إذا قوبلت بجنسها ، وإنما تعتبر المساواة في الوزن . قال - صلى الله عليه وسلم - { : جيدها ورديئها سواء } . وروى الحسن عن أبي حنيفة أن المفاوضة لا تنعقد إلا بلفظ المفاوضة ، حتى إذا لم يذكر لفظة المفاوضة كان عنانا عاما . والعنان قد يكون عاما ، وقد يكون خاصا ، وتأويل هذا : أن أكثر الناس لا يعرفون جميع أحكام المفاوضة ; فلا يتحقق منهما الرضا بحكم المفاوضة قبل علمهما به ويجعل تصريحهما بالمفاوضة قائما مقام ذلك كله فإن كان المتعاقدان يعرفان أحكام المفاوضة صح العقد بينهما إذا ذكرا معنى المفاوضة ، وإن لم يصرحا بلفظها ; لأن المعتبر المعنى دون اللفظ .

التالي السابق


الخدمات العلمية