صفحة جزء
قال

( وإذا ترك التسمية عامدا حرم به الصيد والمذبوح عندنا ، ولم يحرم عند الشافعي رحمه الله ، والمسلم والكتابي في ذلك سواء ) وإن ترك ناسيا لم يحرم عندنا ، وقال مالك رحمه الله تعالى وأصحاب الظواهر : يحرم ، وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما ، وكان علي وابن عباس رضي الله عنهما يفصلان بين العامد والناسي كما هو مذهبنا ، وقد كانوا مجمعين على الحرمة إذا ترك التسمية عامدا ، وإنما يختلفون إذا تركها ناسيا ، وكفى بإجماعهم حجة ; ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله متروك التسمية عامدا لا يسوغ فيه الاجتهاد ، ولو قضى القاضي بجواز البيع فيه لا يجوز قضاؤه ; لأنه مخالف للإجماع فالشافعي رحمه الله تعالى استدل بحديث البراء بن عازب وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم ، وفي رواية قال : ذكر اسم الله تعالى في قلب كل مسلم } وكون الذكر في قلبه في حالة العمد أظهر منه في حالة النسيان ، ولما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن متروك التسمية ناسيا قال : يحل تسمية ملته ، وفي إقامة الملة مقام التسمية لا فرق بين النسيان والعمد { ، وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : إن الأعراب يأتوننا بلحوم ، فلا ندري أسموا أم لم يسموا فقال : عليه الصلاة والسلام سموا أنتم ، وكلوا } فلو كان التسمية من شرائط الحل لما أمرها بالأكل عند وقوع الشك فيها ، ولأن التسمية لو كانت من شرائط الحل كانت مأمورا بها ، وفي المأمورات لا فرق بين النسيان والعمد كقطع الحلقوم والأوداج وكالتكبير ، والقراءة في الصلاة إنما يقع الفرق في المزجورات كالأكل والشرب في الصوم لأن موجب النهي الانتهاء ، والناسي يكون منتهيا اعتقادا .

فأما موجب الأمر الائتمار ، والتارك ناسيا أو عامدا لا يكون مؤتمرا ; ولأنه استصلاح الأكل فكانت التسمية فيه ندبا لا حتما كالطبخ والخبز [ ص: 237 ] ثم فيما هو المقصود وهو الأكل التسمية فيه ندب وليس بحتم ، فهذا هو طريق إليه أولى ، والدليل عليه أنه تحل ذبائح اليهود والنصارى ، ولو كانت التسمية شرطا لما حلت ذبائحهم ; لأنهم وإن ذكروا اسم الله تعالى ، فإنهم يريدون غير الله ، وهو ما يتخذونه معبودا لهم ; لأن النصارى يقولون المسيح ابن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ونحن نتبرأ من إله له ولد ، وحجتنا في ذلك قوله تعالى { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } ومطلق النهي يقتضي التحريم ، وأكد ذلك بحرف من ; لأنه في موضع النهي للمبالغة فيقتضي حرمة كل جزء منه ، والهاء في قوله تعالى : { وإنه لفسق } إن كان كناية عن الأكل فالفسق أكل الحرام ، وإن كان كناية عن المذبوح فالمذبوح الذي يسمى فسقا في الشرع يكون حراما ، كما قال الله تعالى : { أو فسقا أهل لغير الله به } وفي الآية بيان أن الحرمة لعدم ذكر الله تعالى ; لأن التحريم بوصف دليل على أن ذلك الوصف هو الموجب للحرمة كالميتة والموقوذة ، وبهذا يتبين فساد حمل الآية على الميتة وذبائح المشركين ، فإن الحرمة هناك ليست لعدم ذكر الله تعالى ، حتى إنه وإن ذكر اسم الله تعالى لم يحل ، وقال تعالى : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } يعني عند النحر بدليل قوله تعالى : { فإذا وجبت جنوبها } أي سقطت ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تفسير الآية ذكر اسم الله تعالى أن يقول عند الطعن : بسم الله والله أكبر .

وقال الله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } الآية ، والمراد التسمية عند الإرسال ، فثبت بهذين النصين أن التسمية مأمور بها ، ومطلق الأمر الوجوب ، وهي من شرائط الحل ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه { إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل } والمعطوف على الشرط شرط ، وأكد ذلك بقوله : { وإن شارك كلبك كلب آخر ، فلا تأكل فأنت إنما سميت على كلبك ، ولم تسم على كلب غيرك } فعلل للحرمة بأنه لم يسم على كلب غيره فهو دليل الحرمة إذا لم يسم على كلب نفسه ، وشيء من المعنى يشهد له ، فإن ذبيحة الكتابي تحل ، وذبيحة المجوسي لا تحل ، وليس بينهما فرق يعقل معناه بالرأي سوى من يدعي التوحيد يصح منه تسمية الله على الخلوص ، ومن يدعي الاثنين لا يصح منه تسمية الله تعالى على الخلوص فبه يتبين أن التسمية من شرائط الحل أو إنما أمرنا ببناء الحكم في حق أهل الكتاب على ما يظهرون دون ما يضمرون ، ألا ترى أن تسمية غير الله تعالى على سبيل التعظيم موجبة للحرمة لقوله تعالى { وما أهل به لغير الله } فلو اعتبرنا ما يضمرون لم تحل ذبيحتهم ، وكذلك يستحلفون في المظالم بالله ، والاستحلاف بغير الله لا يحل [ ص: 238 ] فعرفنا أنه يبني على ما يظهرون ، ثم إنا أمرنا بالتسمية عند الذبح مخالفة للمشركين ; لأنهم كانوا يسمون آلهتهم عند الذبح ، ومخالفتهم واجبة علينا فالتسمية عند الذبح تكون واجبة أيضا بخلاف الطبخ والأكل ، فإنهم ما كانوا يسمون آلهتهم عند ذلك ، فالأمر بالتسمية عند ذلك ندب .

وكذلك عند الوصف فالأمر بالتسمية عند الوصف لم يكن لمخالفتهم فكان ندبا ، ألا ترى أن في حالة النسيان تقام ملته مقام التسمية ، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لمعنى التخفيف ، وهذا التخفيف يستحقه الناسي دون العامد ، ولأن العامد معرض عن التسمية ، فلا يجوز أن يجعل مسميا حكما بخلاف الناسي ، فإنه غير معرض بل معذور ، والفرق بين المعذور وغير المعذور أصل في الشرع في الذبح وغير الذبح ألا ترى أن في اعتبار الذبح في المذبح يفصل بين المعذور وغيره ، وفي الأكل في الصوم يفصل بين الناسي والعامد ، ولا يعتبر بالمأمور والمزجور فالأكل في الصلاة مزجور ، ثم سوى فيه بين النسيان والعمد ، والجماع في الإحرام كذلك ، ولكن متى اقترن بحالة ما يذكره كهيئة المحرمين والمصلين لا يعذر بالنسيان ، ومتى لم يقترن بحالة ما يذكره يعذر بالنسيان كالصوم ، وهنا لم تقترن بحالة ما يذكره ، وقد يذبح الإنسان الطير وقلبه مشتغل بشغل آخر فيترك التسمية ناسيا ، وعليه يحمل الحديث على أنه اذبح على اسم الله تعالى إذا كان ناسيا غير معرض ، بدليل أنه ذكر في بعض الروايات { وإن تعمد لم يحل } وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها دليلنا ; لأنها سألت عن الأكل عند وقوع الشك في التسمية ، فذلك دليله على أنه كان معروفا عندهم أن التسمية من شرائط الحل ، وإنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكل بناء على الظاهر أن المسلم لا يدع التسمية عمدا كمن اشترى لحما في سوق المسلمين يباح له التناول بناء على الظاهر ، وإن كان يتوهم أنه ذبيحة مجوسي .

التالي السابق


الخدمات العلمية