صفحة جزء
قال : ( المومئ إذا اقتدى بالمومئ يصح اقتداؤه به ) لقوله عليه الصلاة والسلام : { الإمام ضامن } معناه صلاة الإمام تتضمن صلاة المقتدي ، وتضمن الشيء إنما يتحقق فيما هو مثله أو فوقه ولا يتحقق فيما هو دونه ، وها هنا حال المقتدي مثل حال الإمام أو دونه فيصح اقتداؤه به ، فإذا عرفنا هذا فنقول بأن الإمام إن كان قائما أو قاعدا أو موميا يصح اقتداؤه به ; لأن مثل حال الإمام أو دونه ، فإن كان الإمام قارئا والمقتدي قارئا أو أميا يصح اقتداؤه به ; لأن مثل حال الإمام أو دونه ، فأما إذا كان الإمام قاعدا والمقتدي قائما يصح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى استحسانا ، وعند محمد رحمه الله تعالى [ ص: 214 ] لا يصح قياسا .

وجه قول محمد رحمه الله تعالى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يؤمن أحد بعدي جالسا } ، وهذا نص عن علي رضي الله عنه أنه قال : لا يؤم المتيمم المتوضئين ولا المقيد المطلقين ، وهذا نص والمعنى فيه ، وذلك أن الإمام صاحب عذر ، فمن كان حاله مثل حال الإمام يصح اقتداؤه به وما لا فلا ، كإمامة صاحب الجرح السائل للأصحاء ولأصحاب الجروح . وتأثير هذا الكلام وهو أن القيام ركن والمقتدي ينفرد بهذا الركن فلو قلنا بأنه يصح اقتداؤه به يكون هذا مقتديا بالبعض دون البعض ، وهذا لا يجوز ، ووجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أنه صلى بأصحابه وكان قاعدا وهم قيام خلفه } فإنه لما ضعف في مرضه قال { مروا أبا بكر يصلي بالناس فقالت عائشة لحفصة : قولي له إن أبا بكر رجل أسيف إذا وقف في مكانك لا يملك نفسه ، فلو أمرت غيره فقالت ذلك كرتين ، فقال : إنكن صاحبات يوسف مروا أبا بكر يصلي بالناس ، فلما شرع أبو بكر في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة في نفسه فخرج وهو يهادي بين الفضل بن عباس وبين علي ، وكان رجلاه تخطان الأرض حتى دخل المسجد فسمع أبو بكر حس مجيء النبي صلى الله عليه وسلم فتأخر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقعد ، وكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقوم يكبرون بتكبير أبي بكر ، وأبو بكر يكبر بتكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة يكبرون بتكبير أبي بكر } ، وهذا آخر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ، فيكون ناسخا لما كان قبله على ما جاء في حديث { جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال : سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه فجحش شقه الأيسر فلم يخرج أياما ، فالصحابة دخلوا عليه فوجدوه في الصلاة قاعدا فاقتدوا به قياما فأشار إليهم أن اقعدوا ، فلما فرغ من صلاته قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا على أئمتكم ، فإن صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعين ، وإن صلى قائما فصلوا قياما أجمعين ولا يؤمن أحد بعدي جالسا } ولكنا نقول : صار هذا منسوخا بفعله الآخر وهو ما روينا في حديث مرض موته صلى الله عليه وسلم ، وأما حديث علي رضي الله تعالى عنه قلنا : لا يمكن العمل به ; لأن في الحديث زيادة وهو قوله : ولا الماسح للغاسلين وبالإجماع إمامة الماسح للغاسل جائزة ، فدل أنه لا يمكن العمل به .

والفقه فيه أن الإمام صاحب بدل صحيح فاقتداء صاحب الأصل به صحيح كالماسح على الخفين إذا أم الغاسلين بخلاف صاحب [ ص: 215 ] الجرح السائل ونحوه ; لأنه ليس بصاحب بدل صحيح ، ولأن بين القيام والقعود تقاربا في الصلاة حتى يجوز القعود في التطوع من غير عذر ، وهذا لأن القائم كلا الجانبين منه مستو ، فالقاعد أحد الجانبين منه منثن فكان بينهما تقارب ، فيصح اقتداؤه به كاقتداء القائم بالراكع ، وإن كان الإمام يصلي بالإيماء مضطجعا والمقتدي يصلي بركوع وسجود لا يصح اقتداؤه به عندنا خلافا لزفر رحمه الله هو يقول : كل واحد منهما مؤد ما هو مستحق عليه بصفة الصحة فيصح اقتداؤه به ، نظيره اقتداء المتوضئ بالمتيمم والغاسل بالماسح ، ولكنا نقول بأن حال المقتدي فوق الإمام ; لأن الاكتفاء بالإيماء مع القدرة على الركوع والسجود يمنع جواز الصلاة فيمنع صحة الاقتداء ، ولأن الإيماء ليس ببدل عن الركوع والسجود ; لأنه بعضه فلو قلنا بأنه يصح اقتداؤه به يكون هذا اقتداء بالبعض دون البعض ، وهذا لا يجوز بخلاف التيمم والمسح ، فإن التيمم بدل عن الوضوء ، والمسح بدل عن الغسل فيصح اقتداؤه به بالإجماع .

التالي السابق


الخدمات العلمية