صفحة جزء
( وعن ) عطاء بن السائب عن شريح رحمهما الله - أنه سأله عن الحبيس فقال : إنما أقضي ولست أفتي ، فأعدت عليه المسألة فقال : لا حبيس عن فرائض الله تعالى ، وبه يأخذ من يقول : لا ينبغي للقاضي أن يفتي ، وهذا فصل تكلم فيه العلماء رحمهم الله ، فمنهم من يقول : في العبادات لا بأس بأن يفتي ، وفي المعاملات لا يفتي لكي لا يقف الخصم على مذهبه ; فيشتغلوا بالحيل على مذهبه ، ومنهم من يقول : لا يفتي في مجلس القضاء ، وله أن يفتي في غير مجلس القضاء ; [ ص: 52 ] لأنه لو اشتغل بها في مجلس القضاء - وكل واحد منهما أمر عظيم - فربما يتمكن الخلل في أحدهما ، وهو متعين للقضاء فيشتغل بما تعين له ويدع الفتوى لغيره . والأصح عندنا : أنه لا بأس له أن يفتي إذا كان أهلا لذلك ، وقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يقضون بين الناس ويفتون ، والقضاء في الحقيقة فتوى ، إلا أنه فتوى فيه إلزام ; ولهذا كان القاضي في الصدر الأول يسمى مفتيا ; ألا ترى أن شريحا أفتى لما أعاد السؤال بقوله : لا حبيس عن فرائض الله تعالى . فهو دليل أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في أن الوقف لا يتعلق به اللزوم ، وقد روي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه بيناه في الوقف ( وعن ) ابن عباس وشريح رضي الله عنهما قالا : { جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيع الحبيس } وهكذا عن الشعبي ، وفيه بيان أنه كان معروفا - فيما بينهم - أن الوقف لا يتعلق به اللزوم ( وعن ) عمر رضي الله عنه قال : ما بال أحدكم يتصدق على ولده بصدقة لا يحوزها ولا يقسمها ، يقول : إن أنا مت كانت له ، وإن مات هو رجعت إلي ، وايم الله : لا يتصدق منكم رجل على ولده بصدقة لم يحزها ولم يقسمها ، ثم مات إلا صارت ميراثا لورثته ، وهكذا نقل عن عثمان رضي الله عنه وفيه دليل أن الصدقة لا تتم إلا بالقبض والقسمة ; لأن المراد بالحيازة المذكورة في هذا الحديث : القبض ، فإنها قرنت بالقسمة فلو حملنا الحيازة على القسمة : كانت تكرارا ، ولو حملناها على القبض : كنا قد استفدنا بكل لفظ فائدة جديدة

وفيه دليل أنه إذا مات بعد ما تصدق على ولده قبل أن يسلمها إليه ; فهو ميراث للورثة ، وتأويله : إذا كان الولد بالغا فهو حجة على ابن أبي ليلى ; لأنه لم يفصل بين أن يكون في عيال الأب أو لا يكون - ولو كان المراد الولد الصغير - فإذا لم يقسمها لم يثبت الملك للولد فكان ميراثا عن الأب بعد موته .

التالي السابق


الخدمات العلمية