صفحة جزء
وقوله : ولا ما يكال فيما يكال مجري على ظاهره فإن إسلام المكيل في المكيل لا يجوز بحال لاتفاقهما في قدر واحد وقوله : وإذا اختلفا النوعان مما لا يكال ولا يوزن فلا بأس به واحدا باثنين يدا بيد هذا مجري على ظاهره لانعدام [ ص: 122 ] العلة المحرمة للفضل وقوله : ولا بأس به نسيئة هذا غير مجري على ظاهره ولكن المراد إذا كان ما يجعل مسلما فيه يصير مضبوطا بالوصف على وجه يلتحق بذكر الوصف بذوات الأمثال حتى لو أسلم ثوبا في جوهرة أو درة لا يجوز وكذلك في الحيوان عندنا .

وقوله : وإن كان من نوع واحد مما لا يكال ولا يوزن فلا بأس به اثنان بواحد يدا بيد هذا مجري على ظاهره وهو متفق عليه لقوله : صلى الله عليه وسلم { لا بأس ببيع النجيبة بالإبل والفرس بالأفراس يدا بيد } وقوله : لا خير فيه نسيئة هو قول علمائنا - رحمهم الله - فإن الجنس عندنا يحرم النساء بانفراده حتى لو أسلم ثوبا هرويا في ثوب هروي لا يجوز عندنا وعند الشافعي يجوز وكان مالك - رحمه الله - يقول : إن اختلفا في الصفة يجوز فكأنه يجعل اختلاف الجنس باختلاف الصفة ولو أسلم هرويا في مروي جاز عندنا وعند ابن أبي ليلى لا يجوز فكأنه يجعل اختلاف الجنس باختلاف الأصل فأما إذا اتحد الأصل فالكل عنده جنس واحد أو باعتبار تقارب المنفعة يجعل الهروي والمروي جنسا واحدا وقد نقل ذلك عنه في الحنطة والشعير أيضا أنهما من جنس واحد لتقارب المنفعة .

لكن هذا بعيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم عطف الشعير على الحنطة ثم قال : ( وإذا اختلفا النوعان فكذلك ) بيان أنهما جنسان وكذلك المصنوع من أصل لا يكون جنسا للأصل كالقطن مع الثوب فكيف يكون جنسا لمصنوع آخر على هيئة أخرى من ذلك الأصل فعرفنا أن باتحاد الأصل لا تثبت المجانسة وباختلاف الصفة لا تنعدم المجانسة أيضا كما في الأموال الربوية فالحنطة العفنة مع الحنطة الجيدة جنس واحد وكذلك السقي مع التجنبي والفارسي مع الدقل في التمر جنس واحد مع اختلاف الوصف فأما الشافعي فإنما بنى مذهبه على ما قلنا إن الجنسية عنده شرط وقد بينا فساد ذلك وعلى سبيل الابتداء يحتج بحديث { عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جهز جيشا ففرت الإبل فأمرني أن أشتري بعيرا ببعيرين إلى أجل } وعن علي أنه باع بعيرا يقال له : عصفور بعشرين بعيرا إلى أجل وعن ابن عمر أنه باع بعيرا بأربعة أبعرة إلى أجل ولأن هذا عقد جمع بين بدلين لو قوبل كل واحد منهما بجنسه عينا حل التفاضل بينهما فيجوز إسلام أحدهما في الآخر كالهروي مع المروي وتأثير هذا الكلام أن باعتبار التأجيل في أحد البدلين يظهر التفاوت في المالية حكما والتفاوت في المالية حقيقة أكثر تأثيرا من التفاوت في المالية حكما فإذا كان التفاوت في المالية في هذه [ ص: 123 ] الأموال حقيقة لا أثر له في المنع من جواز العقد فالتفاوت حكما أولى وهذا لأن حكم الربا في خاص من الأموال وجعل الجنسية علة تؤدي إلى تعميم حكم الربا في كل مال فما من مال إلا وله جنس فما كانت الجنسية إلا نظير المالية ثم لا يجوز جعل المالية علة الربا فكذلك الجنسية وحجتنا في ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة } ولا يحمل هذا على النسيئة من الجانبين ; لأن ذلك يستفاد بنهيه صلى الله عليه وسلم { عن بيع الكالئ بالكالئ } ; ولأنه إذا قيل باع فلان عبده بالحيوان نسيئة فإنما يفهم منه النسيئة في البدل خاصة

ومطلق الكلام محمول على ما يتفاهمه الناس وتأويل ما رووا من الآثار أنه كان قبل نزول آية الربا وكان ذلك في دار الحرب وعندنا لا يجوز الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب فتجهيز الجيش وإن كان في دار الإسلام تقل الآلات كما لو كان في دار الحرب لعزتها في دار الإسلام يومئذ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين الجنسية والقدر في أول الحديث ثم ، قال : ( وإذا اختلفا النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد ) فقد أبقى ربا النساء لبقاء ما هو قريبه وهو الجنس فكان ذلك تنصيصا على ثبوت ربا النساء عند وجود الجنسية ; لأنه متى ثبتت المساواة بين الشيئين بالنص ثم خص جنس أحدهما بحكم كان ذلك تنصيصا على ذلك الحكم في الآخر كالرجل يقول اجعل زيدا وعمرا في العطية سواء ثم يقول أعط زيدا درهما يكون ذلك تنصيصا على أن يعطي عمرا أيضا درهما ولا يستقيم اعتبار ربا النساء بربا الفضل لاتفاقنا على أن ربا النساء أعم حتى يثبت في بيع الحنطة بالشعير وإن كان لا يثبت ربا الفضل وليس الجنس كالمالية ; لأن جعل المالية علة تؤدي إلى تعميم الربا في البيوع كلها ; لأن البيع لا يجوز إلا في مال متقوم والشرع فصل بين البيع والربا فعرفنا أن المالية ليست بعلة فيه وليس في جعل الجنسية علة تعميم الربا في العقود كلها والقياس على أصول تنعدم فيها الجنسية باطل ; لأن انعدام الحكم عند عدم العلة دليل صحة العلة لا دليل فسادها ولأن إسلام الشيء في جنسه يؤدي إلى إخلاء العقد عن الفائدة وإلى أن يكون الشيء الواحد عوضا ومعوضا وإلى فضل خال عن العوض مستحق بالبيع وذلك باطل بيانه أنه إذا أسلم ثوبا هرويا في ثوب هروي فإنه يلزم تسليم رأس المال في الحال ثم إذا حل الأجل يرد ذلك الثوب بعينه والمقبوض بحكم السلم في حكم عين ما يتناوله العقد فلو جوزنا هذا العقد لم يكن مفيدا شيئا ويكون الثوب الواحد عوضا ومعوضا وإذا أسلم ثوبا هرويا في ثوبين هرويين لو جوزنا [ ص: 124 ] ذلك لكان إذا حل الأجل أخذ منه ذلك الثوب بعينه وثوبا آخر فالثوب الآخر يكون فضلا خاليا عن العوض مستحقا بالبيع وهو الربا بعينه

التالي السابق


الخدمات العلمية